أمي في أحشائك سكنت، وشعرت بأنني مُعلّق داخل تجويفك أتغذى من وريدك، وأرتوي منك، وأتنفس أكسجين الحياة داخلِك.
وفتحت عيني على آهاتك وآلامِكْ، وأنتِ تصرخين وأنا أصرخ، أنتِ تصرخين من آلام الولادة، وأنا أصرخ من قادمي المجهول.
وبدأت معك ياأمي رحلة طويلة جميلة من العطاء، والتضحية، والوفاء في مسيرة الحياة.
دعيني ياأمي أُبّحِر معك في هذه الرحلة الرائعة التي كُنّتِ أنتِ بطلتُها وواهبتُها ومُعلمتُها، ومدربتُها وأسطورتُها التي تُحكى وتروى، وتكتب بماء الذهب.
كل القصص ياملكة الحنان كانت تُركز على البطل والبطلة إلا قِصتُكِ يا أمي، وروايتك ياعُمّرِي، فقد كُنّتِ أنتِ وحدِكّ لاغيرك البطلة والبطل، والمصورة وكاتبة الرواية، ومُخرجتها.
وكُنّتِ أنتِ القصة، والحدث، والمعاني السامية، والمواقف الخالدة التي لن أنساها ماحيِيّتْ.
وكنتِ أنّتِ الإضاءة، والمسرح، ومواقع التصوير وشبابيك الدخول وكاميرات التصوير وشاشات العرض.
وكنت أنا وحدي الجمهور، والمتلقي، والمتفرج، والمدلل الأوحد.
أجل ياأمي روايتك ليست رواية شاهدتها عبر أجهزة التلفاز، ولا في بيوت السينما والمسارح العالمية.
روايتك وقصتك ياأمي تنفستُها أكسجينًا نقيًّا صافيًّا ملأ صدري، وعشت أحداثها لحظة بلحظة، وشعرت بها وتعايشت معها طوال عُمّرِي في طفولتي، وزهرة شبابي؛ وحتى خط الشيب شعري وشاربي.
قصتُكّ ياأمي في داخلي كُتِبت وتم نشرُها، وفي أعماقي سبحت وتم رسمُها، وفي خيالي تشكّلتْ وتم حفرُها، وفي أحلامي ترسخت، ويتم استعادتها، وتذكّرها صباحًا ومساءً
قِصّتُكِ ياأمي وُلِدتْ ونمتْ وغدتْ قصتي التي لاتُنسى، ولحني وأُغنيتي التى تشّدوى بها الحناجر، ومُذكّراتِي التي لأولادي وأحفادي ستروى وستبقى، يامن لك كل العيون والنفوس رخيصة تُفّدى.
أتذكرين ياأمي فصول هذه الملحمة إن كُنّتِ لا تذكرين أنا أذكر!!
أتعلمين يا أمي أحداثها إن كُنّتِ لا تعلمين ياغاليتي أنا أعلم!!
دعيني ياأمي اليوم أسرد لك جزءًا من تفاصيلها الأسرة اعترافًا مني بفضلك، وإحساسًا بقيمة ماقدمته لي من حُب خالد ودعم لا محدود لكل الصعاب والتحديات معين وصامد ومساند.
بدأت قصتي معك تنضج وتتضح معالمها وأنا طفل رضيع غطائي كان جسدك، ودفّئي هو حرارة جسمك، وغذائي مصدره حليب صدرِك، ونظافتي كانت بيدك وملابسي تظل من اختيارك.
كُنّتِ كل شيء في حياتي لحظات الصفاء عندي إذا ناغيتيني، وأوقات الدلع والسعادة التي أشعر بها إذا حملتيني وهززتني وحضنتني.
مُستسلم لما تفعلين بي لا حول لي ولا قوة، ولكنه استسلام من يعيش في أمن وسكينة، وهدوء من يشعر بكثير من الراحة والطُمأنينة.
وأبتداء مشوار الحياة يأخذني إلى عالم جديد حينما كبرت، ودخلت المدرسة وفي أول سنة من مشوار التعليم الطويل واجهت أكبر تحدي في حياتي، حيث لاحظ الطلاب أني لا أتكلم مثلهم وإن مخارج الحروف تتلعثم على لساني وعرفت أني مصاب بالتأتاة، وهي عدم القدرة على نطق الحروف بشكل سهل، وواضح وتكرار الحرف أكثر من مرة.
وسمعت ضحكات زملائي كلما حاولت أن أتكلم بما فيهم معلمي وتجاهله لي في حصة القراءة، وهنا تجليت يا أمي وظهرت ِبمواقفك العظيمة التي طوقت عنقي فكنت أرمي نفسي في حظنك باكيًّا حزينًا على ماأعاني من صراع نفسي كبير، وأنتِ تزرعين التفاؤل في نفسي، وتضربي لي أروع الأمثلة في الدعم والمساندة والبحث بكل وسيلة ممكنة عن علاج لمشكلتي.
طرقتِي جميع الأبواب وكل السبل للبحث عن علاج لهذه المشكلة التي تساعد على تحسين النطق بطريقة طبيعية.
ولم يخيب الله جهودك ودعاءك وصبرك فاستطعت بعد فترة وجيزة أن أتعايش مع هذه المشكلة وتحسين طريقة الكلام؛ حتى غدت هذه المشكلة لا تذكر.
كان قلبك كبيرًا يسع العالم كُله حنون يملأ الدنيا حنانه، عطوف يكفي الدنيا سخاءه، كريم يغني العالم عطاءه، وفي يخجل القاسي وفاءه، مسامح يكفي العالم تسامُحه.
يتحمل ويتحمل ويتحمل ولا يشتكي حتى جاء اليوم الذي مرض فيه هذا القلب، وقرر الأطباء أن لابد من تغيير صمامين رئيسيين بشكل عاجل من صممات القلب الذي أُجّهِدَ من الضخ المتواصل لمشاعر الحب، والأحاسيس الجياشة.
وقفت أمام سريرك باكيًّا خائفًا متوترًا، وأنّتِ تخفين خُوفِك، وتبعدين هُمومِكْ وابتسمتي وحضنتني بكل شوق الدنيا، وقلتِ لي لا تخاف ياحبيبي عملية بسيطة واخرج انشالله قريبًا.
وأراد الله أن لا يحرمني منكِ فخرجتِ من المستشفى تقاومين ضعفِكْ، وتجاهدين لاسترداد عافيتِكْ وظلّ عطاؤك يزيد ولا يضعف، وإرادتك تقوى كالصخر الصلب لا تتفتت.
ماذا أقول يا أماه فقد كُنّتُ أرى وجهك يتلون من شدة الألم، ولكنك تقاومين وتصبرين وتجاهدين كي لا نشعر بشيء.
وشاءت إرادة الله أن تختبِرنا في موقف يهز الجبال هزًّا، ويضعنا في تحدٍ أكبر ومعاناة لا حدود لها.
أجل يا أمي أتذكرين في تلك الليلة الشتوية الباردة حينما علمنا فجاءة أنك في آخر المراحل من احتمال الفشل الكلوي، وأنه يجب أن تبحثي عن متبرع يعطيك فرصة لحياة جديدة.
ومع هذا، وبالرغم من حجم الألم والمعاناة والظروف الصحية التي بدأت تتدهور بشكل سريع، أصريتي أن لا تقبلي من أحد من أبنائك وبناتك وأهلك المقربين التبرع بالكلى في عناد عجيب لم تفلح معه أي محاولة لثنيك عن رأيك، وكنتِ مستعدة لكل شيء إلا أن تعرضي أحدًا من عشيرتك المقربين لأي مضاعفات.
وحقق الله رغبتك، واستجاب بفضله لدعائك في جوف الليل بأن سخر لك متبرعًا أرسله الله من غير فضل منا ولا جهد، بينما قائمة الانتظار مليئة بغيرك ممن ينتظرون متبرعًا، ولكنها إرادة الله أن يسهل لك، ويسخر لك من يتبرع لك أنتِ.
أتذكرين يا أمي كيف اجتمعنا حواليك قبل أن تدخلي غرفة العمليات عيوننا غائرة، ودموعنا نازفة، وصوتنا مُتهدِجْ إلا أنتِ ياأمي، كانت ثقتك بالله كبيرة، ورغبتك في الحياة من أجّلِنا أكبر.
وأراد الله أن يهبُكْ حياة جديدة؛ لتهبينا ماعندِكْ من عطف، وما لديكِ من مشاعر.
ماذا يأأمي أقول في حقك؟ وماذا أكتب؟ وقد كُنّتِ في حياتي الضياء، والنور، والوجه الباسم المسرور، والمعلمة الناصحة لمسح الغضب الذي وقر في الصدور، والملهمة الساعية للتواصل، وربط الجسور.
كيف لا وأنا أراكِ تبتسمين إذا أخطأنا بحقكْ، وتبتسمين لو غرتنا الدنيا وأبعدتنا قليلًا عنّكْ. وتبتسمين لو أخطأت زوجاتنا بأي تصرّفْ معك، وكأنك تقولي لنا جميعًا الحياة قصيرة لا تستحق أن نضيعها في الصراعات، والخلافات، والأحقاد، والتفاهات، والضغينة، والغيرة.
كانت علاقتك معنا ياأمي حانية، ومع ربك دائمًا خاشعة، وصادقة.
لا أنسى يأُأمي يوم أن أكملت دراستي العليا من كان له الفضل بعد الله في وصولي لما وصلت إليه من تعليم.
لن أنسى ياأمي ركن بيتنا الشعبي الذي لاتكيف فيه من كانت تعلمني حروف الهجاء، وكيف أمسك القلم، وكيف أكتب سطوري بقلمي، ومرسمتي المهتزّة، وأوراقي، وكراستي المتواضعة في ذلك المساء.
أنتِ يا أمي كنت تقومين بهذا الدور الخالد في ذاكرتي العالق في مخيلتي الماثل في تفكيري زمنًا طويلًا يزداد في ذاكرتي حُسنًا وبهاء.
وأحمد الله أن سخر لي أمًا مثالية مثلك كلما أظلمت في وجهي الدنيا أشّعلتي لي أنّوارِكْ، وكلما اسودّت الحياة في عيني أنرتي لي مصابيح أحلامك، وكلما هزني الشوق إليك رميت نفسي في أحّضانِك، وكلما أتيت من سفر اتجهت فورًا إلى دارك وعنوانك، وكلما ازدادت مخاوفي، وهمومي، دعوتي لي الله روح يا ولدي الله يفرج أحّزانِك، وأحمد الله عز وجل أنك لازلتي في حياتي باقية أنعم بظلك، وعطفك، وحنانك.
الله لايحرمك منها يارب ابكيتنى والله من جمال السرد
دمتم بِهذا العطاء المميز.. يسعدني الاستمتاع بالقراءة لمـواضيعكم الملامسة للقلب..
تـقبلـوا خالص احترامي لموهبتكم الجميلة
جميل جدا
جهود لن تعوضها حروف.. وافعال لن تُكافى فنسعى ولكن تخالفنا الظروف.. قدموا وضخوا ليكون دربنا بالنجاح محفوف.. ودموع تنهمر على تقصير يباغتنا والعذر بنياصنا مألوف.. دنيا وانشغال وأعمال ندور في دوامتها كالخيط الملفوف.. بوركت الأيدي التي كتبت والأم التي ربت.. و كل من قام على نشر تلك اللؤلؤة المكنونة في قلب كل منا.. سلمت الأيادي وبورك الإخلاص والحب الطاهر..
الله يحفظها الغاليه نور العين ماكانت بس حنونه على اولادها حنانها على كل اللي حولها
تبقى الام المعادلة المعجزة التي يستحيل ان يتساوى فيها اطراف المعادله؛ مالجزاء الذي يوازي عطاء لامحدود وحب لامشروط.
سطورك استاذي الفاضل معطرة بنكهة الجنان.
من مثل قلوب الأمهات
حفظ الله لك أمك وأمهاتنا
وأبعد عنهم المرض والحزن والألم
ورزقنا برهم وحسن صحبتهم في الدنيا والآخرة..
كلماتك أستاذ حسن
تحمل البر الوان رزقك الله برها من البر الاعتراف بالفضل والإحسان
مهما كبرنا تبقى الأم احتياج لايمكن الاستغناء عنه وجودها بركة وطولة عمر ودعوات تسعدنا دنيا وآخرة
مقالة ابكتنا واسعدتنا لله درك وبارك الله فيك وفي والدتك وماخطه قلمك
سطور أعمدتها من ذهب وأحرف مضيئة سبحان من وهب ومعاني مشرقة صادقة منيرة تكشف عن واقع ملتهب كتبها قلم ينشر الابداع هتان ماطر يتساقط من بين السحب