تقول قاعدة ديكارت رينيه العاشرة: “ينبغي حتى يكتسب الفكر فطنةً أن تدربه على تحصيل ما اكتشفه الآخرون، وأن يدرس وفق طريقة ما كل فنون الناس ومهنهم ….”.
ويصب هذا بطريق أو بآخر في صناعة الأديب، ويتقارب كثيرًا مع تعريف الثقافة والأدب، وكان ابن خلدون ممن تآزر مع هذا المعنى أو قريب منه في تعريف الأديب، وقرر ذلك في المقدمة حيث عرفه بـ: “حِفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علمٍ بطرف”.
وهذا ما ذكره الحسن بن سهل كذلك بقوله: “الآداب عشَرة: ثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربَت عليهنَّ، فأما الشهرجانية، فضربُ العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج، وأما الأنوشروانية، فالطبُّ والهندسة والفروسية، وأما العربية، فالشعر والنسب وأيام العرب، وأما الواحدة التي أربت عليهن، فمقطَّعات الحديث والسمر وما يتلقّاه الناس بينهم في المجالس” وبصرف النظر عن حصر الأدب والثقافة في تلك العشرة إلا أننا نستشف عمومية المصطلح وشمولية التعريف لدى الكثير، وأنه تحقيق يصب في ضرورة اكتساب (جانب من كل جانب) وجمع فنون الناس ومهنهم كما يقول رينيه.
ولعل هذا ما آل إليه المصطلح وبات يحمله، وكثيرًا ما يتحجج البعض للأسف بأن هذا “ليس في تخصصي”، و”أني لا أميل إليه”، وأن “هذا الموضوع خارج نطاق اهتماماتي” وما إلى ذلك من خلق حواجز يصطنعها البعض في نفسه، ويحيط ذاته بقيود ليست على الواقع بواقع.
غير أننا والأغلب كذلك يرون أن كل ما أنتجه عقل الإنسان وحرره فكرة في شتّى العلوم والمعارف هو متاح للجميع، وللجميع الحق في تقلده واكتساحه، وأن بلوغ درجة رفيعة من العلم والمعرفة لا تكون إلا بمزج تلك المعارف، والاستسقاء من تلك الأطراف.
بل وأكثر من هذا فيما يستشف من تفاصيل قاعدة رينيه وهو الحرص على عدم الجمود أمام تلك المعارف، وإعمال ذواتنا ومحصلاتنا المتراكمة في ما نمر به، أو أن نصبح مجرد قوالب ناقلة وأقلام لا تتقن سوى تدوين ما يملى عليها، وهنا تتباهى تلك العقول على بعضها وتتفاخر تلك الأدمغة على قرنائها، وبالتالي الوصول إلى حقائق ربما لم تطف بذلك المقروء، واستنباط مسارات أخرى لذات النص، والاطلاع على تلك المعارف بزوايا أخرى خاصة لكل مطلع، ويؤكد هذا وجود النظرة العامة والخاصة وباطن النص وظاهرة، ولعل فرض سيطرة النظرة الخاصة على تلك الأفكار والخروج بكنوز خاصة هو عين المطلوب، وهذا ما لا ينبغي للآخرين.
نخلُص من هذا كله أن تركيب فكر حر متطلع لا يعرف الحد لن يكون إلا بتحطيم الحد وخلق فضاء واسع ليس فيه صدى، وكل ما زاد فسحة زاد عظمة، وأن ما تمر به دون أن تفرز فيه شيئًا منك سيبقيك دائمًا على رصيف القوالب وشخوص النقل، ولن تعدو ذلك القدر مهما بلغت.
غرد بــ
مرر عقلك في النص قبل أن تنقله.