ربما كان من المبكر الحديث عن مرحلة ما بعد كورونا؛ لأن الوباء ما زال مستفحلًا ولم يكتشف العالم علاجًا له بعد. وكل ما توصلنا إليه مجرد أدوية تحسن فرص الشفاء لبعض الحالات الحرجة، وأجهزة كشف مبكر، وتوفير غرف عزل كافية، وإجراءات احترازية متنوعة. كما أن فرص جولة ثانية، ربما لنسخة أخطر من الفايروس لازالت قائمة.
إلا أن الوباء سينتهي في نهاية المطاف، بإذن الله، كما انتهى ما هو أخطر منه عبر التاريخ، وتبقى الدروس والعبر، فهل نعتبر؟ الوعي الإنساني مرتبط بالثقافة والذاكرة معًا، ولا يمكن المراهنة عليهما. فقد لاحظنا خلال الأشهر الماضية كيف استخف الملايين بخطورة الوباء، مما ساهم في استمراره، وزيادة ضحاياه. فماذا نتوقع بعد سنوات؟
ورغم ذلك أبقى متفائلًا، ولي في ذلك أسباب موضوعية. فقد استيقظ العالم واتحد في جهود المواجهة كما لم يفعل من قبل، وكان للسعودية فضل لا ينكر في قيادتها لهذه الجهود كرئيس لمجموعة العشرين، ومن خلال مساهمتها السخية لمنظمة الصحة العالمية والبحوث العلمية المشتركة لإكتشاف اللقاح وتوفيره للجميع.
ومحليًّا، كسبنا الرهان في ثلاث: ١) التلاحم بين القيادة والشعب. ٢) العمل المؤسساتي المنظم بقيادة وزارة الصحة ومشاركة جميع الوزارات والجهات المعنية. ٣) التوسع السريع والكبير في توفير المراكز الصحية، وتقديم الخدمات التخصصية. مما أكسبنا احترام العالم، وثقة المواطن في كفاءة مؤسساته الحكومية.
إذن ماذا بعد؟ في تقديري أن الخسائر الاقتصادية ستظهر أبعادها أكثر خلال الفترة القادمة؛ خاصة للجهات الخدمية التي أغلقت خلال الشهور الماضية. فليس من السهل تعويض ما خسرته، أو استعادة العملاء. ورغم الدعم الحكومي السخي، فلا زال الكثير من المتضررين بحاجة إلى وقت وربما مزيد من الدعم لينهضوا من جديد.
إلا أننا تعلمنا أيضًا مهارات جديدة وهامة مفيدة. فماليًّا، تمكنت الدولة عبر مؤسساتها الاستثمارية من استغلال الفرص النادرة لشراء أسهم شركات عالمية في تخصصات هامة، كالطاقة والاتصالات والتقنية والضيافة والترفيه، وأمنت بذلك فرصًا أعلى لنقل التقنية، ورفع معدلات الاستثمار في برامج #رؤيةـ2030.
كما خفضت الأزمة معدلات نمو النفط ذو التكلفة العالية كالنفط الصخري والبحري، وسمحت للمنتجات #السعودية بالوصول إلى أسواق جديدة وتأمين زبائن جدد؛ خاصة مع خروج النفط الإيراني نتيجة للعقوبات الأمريكية. وأثبتت القيادة السعودية لأوبك حصافتها وكفاءتها، وبالتالي أصبحنا في موقف أقوى لمواجهة تحديات وفرص المستقبل.
ومن أبرز الإنجازات السعودية التفاعل السريع والكفء مع تحدي العمل والتواصل عن بعد. وساهم في ذلك أننا بدأنا مبكرًا بتقديم الخدمات الحكومية عبر خدمة أبشر، والتطبيقات ونشاط التجارة الإلكترونية، ونقل وتوزيع المنتجات. كما توافرت خدمة النت السريع لكافة المناطق حتى النائية منها، وتعود عليها الجميع.
ومن أنجح التجارب تجربة التعليم عن بُعد، خاصة في المرحلة الجامعية، وخدمات الداخلية والصحة والعدل والبريد. ومتوقع تسارع هذا التوجه بعد أن تجلت فوائده لمقدمي الخدمة توفيرًا وفعالية وللمستفيد كسبًا للوقت والجهد وللجهات الرقابية ضبطًا وتنظيمًا وإشرافًا.
كما استمتع الناس بوسائل التواصل الاجتماعي الجديدة كالفيديو الجماعي والتواصل عبر المحاضرات والندوات والمجموعات، وما توفره من وقت وجهد، ومن سفر وتنقل. فساعات اليوم أصبحت أكثر إنتاجية، وأقل تكلفة وأعلى جدوى. والتراحم بين الأهل والأصدقاء أصبح أسهل وأيسر.
ومن العادات المكتسبة التي يمكن أن تستمر الحرص على النظافة الشخصية والعامة، والتباعد الجسدي، واتباع الإجراءات الاحترازية الصحية، والتقليل من الخروج والسفر بدون داع، والابتعاد عن أماكن التزاحم والتلوث، ورفع مستوى الثقافة والوعي الصحي.
أتمنى للجميع عودة آمنة حريصة وحذرة للحياة الطبيعية، واستعادة للمكتسبات السابقة، وللوطن مزيدٌا من الأمن والرخاء والتنمية. كما أرجو أن نستفيد من دروس الأزمة لنخرج منها أقوى وأوعى. حفظ الله بلاد الحرمين وقيادتها وأهلها.