الله كم أشتاق اليوم كثيرًا إليك، وإلى لقاء حميم كان يجمعنا، وحديث باسم معكم كان يطربنا.
كنا صغار نلهو ونلعب تحت ناظريك، لا فايروسات غامضة تقلقنا وتُهاجمنا، ولا هموم ومخاوف تشغلنا وتُتعبنا، وكنا نردد في براءة غامرة ياجدي خلينا نلعب شوية معاك الله يخليك.
لعبنا يا جدي كثيرًا، ورحلت عنا ذات مساء حزين، وبقيت في قلوبنا رمزًا للحُب، والطيبة، والمودة، والطمأنينة، والمشاعر الإنسانية الصافية، والنقية والفياضة والمتدفقة من أنبل القلوب والوجدان التي لم تلوثها الحياة المدنية والجري وراء المال ليل نهار بدون توازن واتزان.
كانت إضاءتك يا فانوس جدي لم تكن عالية، لكنها كانت وهاجة كافية لكي نرى جمال تلك الوجوه الطيبة، ونبصر بها تلك النفوس الحنونة التي كانت تقص علينا أجمل الحكاوي والقصص التي تطرب الآذان.
كنا نجتمع في غرفة صغيرة في ذلك الحي والحارة الجبلية في ريع الكحل بمكة الحبيبة جدرانها، كانت تخلو من الشبابيك والنقوش والألوان، وسقوفها بسيطة من أعمدة الشجر والنخيل والسعف مجتمعان.
لا مروحة ولا تكييف سوى مراوح من سعف يهف بها على وجوهنا في فرح وسعادة تخفف لهيب الصيف والحر في ذاك المكان.
الله يا فانوس جدي كم كنت شاهدًا على أروع الحكم، والفضائل، والعِبر، والمواقف، والدروس التي ربتنا على الإيمان والصدق والنبل والشجاعة وعدم الغش، ومخافة الخالق الرحمن.
لو كان الأمر بيدي يا جدي ما تركتك ترحل وتغادر هذا الزمان، لكنه قضاء الله وقدره لن يسلم منه أي إنسان كائن من كان.
لقد كان فانوسك يا جدي ساحرًا مُشعًا يضيء المكان، ويتغلغل ضوءه وشعاعه برفق داخل النفوس والأبدان.
وكنت طفلًا لاهيًّا أعيش في عالم نقي صافي لا يعرف في حياته الخوف، والتوتر، والقلق، والأحزان.
وكنت ألهو سعيدًا أقفز وأتنطط وأتسلّق بين الأركان والجدران، ثم أرتمي على الأيدي الدافئة التي تتلقفني وتضمني بحب ودلال إلى صدور أدفاء الأحضان.
ياليت فانوسك يا جدي بقي، ولم ينطفئ ويختفي؛ فقد كان ضوءه كالقمر ينير الليل إذا سجى وغطى كل المكان.
لقد ظل فانوسك ياجدي لم يخبو مشتعلًا يتراقص طربًا في داخلي كلما تذكّرتك، وأحزنني، وأوجعني تصاريف الأيام والزمان.
فانوسك ياجدي كان ولا زال في أعماقي لوحة جميلة تدغدغ مشاعري رسمها ساحر وملهم فنان.
وسيظل يا جدي فانوسك دومًا يذكّرنا ببساطة ذلك الزمن لهذا الوطن وطيبة أهله، وكيف تطور اليوم، وتغير وغدى وطن نزهو به، ونردد في فرح وحب الله يحفظك يا وطني يا أجمل الأوطان.
ويتلألأ في الأفق ظلال قنديل جد كاتبنا ليذكرنا بآبائنا وأجدادنا فندعو له وندعو لهم ونأخذ من فتيله المشتعل ومضات الحكم والمواعظ التي أنشأؤنا عليها في زمان ربما لم نعي جماله الا عندما استبدلتنا الأيام بأزمان أخرى وعلاقات لطالما نبهونا عن تشعبها ومضضها.. كانوا يزرعون فينا الحذر وخلاصة تجاربهم علها تكون ردئا لنا في هذا الزمان… بوركت الصحيفة بمحرريها وكتابها وجودة ماتنشر وبوركتم كاتبنا واديبنا المميز حيث تجتذبنا لما بين السطور وتسرح بنا بين الماضي وتحوله لجمال يضاهي القصور.. لا عدمنا منك هذه الأبجدية التي تعبر عما يعتري في الصدور..