حسن عطا الله العمري

هذا أبي

مربي أجيال عاش في الزمن الجميل الذي أخرج أنبل الرجال، صنع نفسه بنفسه، وكافح الظروف والأحوال الاقتصادية القاسية التي كانت سائدة في زمنه وعصره بعزيمة لاتنفذ، وطموح متوهج لا يتوقف، ترك قريته وديرته وأهله وأحبابه الرابضة تحت الجبال في صحراء قاحلة ليس فيها ماء ولا خضرة ولا ظل ظليل، وحمل نفسه قاصدًا مكة لعله يجد عملًا شريفًا، يعيل به نفسه، ويفتح له بابًا للرزق والتعلم، وتحقيق حلمه الجميل.
ووجد فرصة للعمل كاتبًا للمعاريض عند بوابة إحدى الدوائر الحكومية التي يرتادها المواطنون، ثم عريفًا في الشرطة سنة إلا قليل، لكن الأمر لم يطل به فقد كانت أحلامه كبيرة وعالية تعانق السماء، وتم تعيينه مدرسًا في مدرسة ابتدائية بحي الشرائع الذي يبعد كثيرًا عن وسط مكة؛ حيث كان يسكن مع والدته، فاشترى لنفسه دراجة لكي تعينه على الوصول إلى مدرسته والعودة منها كل يوم بصبر وإرادة لا تفتران.

وسبحان الله الرازق الوهاب، والمسخر الأسباب وفاتح كل الأبواب، فقد التقاه وتعرف عليه أحد الشيوخ الصالحين والناصحين المحبين للخير في ساحة الحرم المكي حين رأه يحافظ على أداء صلوات العصر والمغرب والعشاء في الحرم كل يوم، ويحضر الدروس المقامة، وتوطت بينهم علاقة محبة وإخاء وصداقة في الله.
سأله ذلك الشيخ الفاضل قائلًا يا ابني أرى فيك صلاحًا وجلدًا وعزيمة وإصرارًا وحبًّا للعلم لماذا لا تكمل تعليمك الجامعي، وتأخذ الشهادة الجامعية من كلية دار التوحيد بالطائف في العلوم الشرعية ولديهم هناك مكافأة شهرية طيبة تغنيك، وتعينك على ظروف الحياة، وتزداد علمًا ورفعة شأن.
وأردف قائلًا: إن شئت انا أرسلك لمن سيهتم بأمرك ويسجلك في الكلية.
لم يكذب والدي خبرًا، وذهب إلى الطائف مسرعًا فرحًا، وحيدًا إلا من طموحه، فقيرًا الا من اعتزازه بنفسه ، متخوفًا إلا من ثقته في لطف الله به، قلقًا إلا من إيمانه أن الله مع الصابرين والمجتهدين.

استقبلته الطائف وبدأت له كعروس فاتنة بعريسها مرحبة، باسمة ماطرة، بأجوائها غائمة باردة، وهو الذي لم يعهد ويتعود على تلك الأجواء الخلابة وما هي إلا أيام قلائل؛ حتى أصبح بفضل الله محاطًا بمجموعة من الزملاء الأعزاء الذين أحبهم وأحبوه، وأصبح بعضهم زملاء العمر الذين لا زال يذكرهم إلى اليوم بالخير والمحبة والوفاء منهم من رحل إلى رب كريم حزن على فراقهم، ومنهم من لازال يتواصل معهم، ويسأل ويسألون عنه.
ويشاء الله أن يفتح عليه أبواب الرزق، فيصبح إمامًا لمسجد بالقرب من كليته التي يدرس بها، وتأمن له السكن في ملحق المسجد الأمر الذي خفف عليه المصاريف بشكل كبير.
في تلك الغرفة الصغيرة والملاصقة للمسجد عاش أبي مع عدد من زملائه أجمل الأيام، وأسعدها على الإطلاق على مدى خمسة أعوام.
يتناوبون على الطبخ والغسيل كل يوم على من عليه الدور دون تأفف أو تهرب كل شيء كان لديهم مرتب ومتفق عليه لايختلف عليه اثنان.

وتبقى أعمال الخير دائمًا ماثلة وراسخة في الذاكرة والوجدان، فكثيرًا ما يذكر لي باعتزاز وتقدير وتواضع قصة تاجر كريم، ورجل أعمال نبيل محب للخير، كان يصلي معهم في المسجد، وحين يأتي الشتاء يحضر له طاقة أقمشة من الصوف، ويطلب منه أن يوزعها للمحتاجين بالمجان.
وقصة قاضي عجوز أعمى، كانت زوجته الصالحة تحضره كل يوم إلى باب المسجد في صلاة الفجر، ثم تذهب إلى بيتها، ويعيده بعد الصلاة والدي إلى بيته بنفسه، ويصر عليه الشيخ أن يدخل، ويتناول معه القهوة والتمر أشكال وألوان.

وقصة جارة طيبة كانت تشفق عليهم وترسل لهم كل يوم شيئًا من طبخها مشاركة ومحبة، وإكرامًا لجيرتهم كشلال متدفق الحنان.
الله ما أنقى تلك القلوب وما أتقاها ومخافتها من الخالق الرحمن.
في عز الفجر وبرد الطائف، يصحى الزوج الأعمى وتقوده زوجته إلى المسجد كل يوم بسكينة واطمئنان.
أجل لا غرابة في ذلك طالما امتلأت القلوب سكينة وخشوع وأيمان.
تخرج والدي، والتحق بسلك التعليم من جديد يتنقل من مدرسة إلى أخرى مدرسًا في العلوم الشرعية، ثم وكيلًا فمديرًا لمدارس يتسابق الطلاب للالتحاق بها، ويُشار لها بالبنان، ومأذونًا شرعيًّا زوّج الآلاف وعقد لهم، وأدخل البهجة والفرح في قلوب أجمل العرسان.
وطوال اربعين عامًا عملها في التعليم لم يغب يومًا أو يتأخر عن عمله إلا لمرض قاهر يضطره لذلك أحيانًا.

وحين يلتقيه طلابه اليوم في أي مكان أسمع منهم عبارات الشكر والتقدير لمربي فاضل وجدوا منه حرصًا ورعاية تثقل الميزان، وكان يعتبرهم أبناءه، ويسدي لهم نصائح لا تقدر بأثمان.

تعلمنا منه نحن عائلته الصغيرة كل معاني الحب التي عرفها الإنسان، بره في أمه وحرصه على تعليم أبنائه وبناته بمستوى جودة فيها كل إتقان، وشغفه بعمله وإخلاصه ووفائه، وتواصله الدائم مع أقربائه وأهله في كل حين وخدمته لكل من يطرق بابه بكرم وحب قل أن يجتمعان.
اللهم احفظ والدي الاستاذ عطا الله العمري وشافه، واجعل ماقدم من خير في ميزانه يارب العالمين يوم يلتقي الثقلان.
أنعم به من أب وأكرم به من قائد المربي الفاضل أطيب وأنبل إنسان.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. الله يحفظ والدكم الكريم ويجعل ماقدمه في موازين حسناته ويلبسه لباس الصحة والعافية ويمد في عمره على طاعتة ….ويكتب اجرك ابو نواف عن نقلك لجميل مافعل والدكم برا به وحق لك ان تفتخر بانجازته العظيمة التي قدمها

  2. وحيدًا الا من طموحه ، قلقًا الا بإمانه بالله ، كلمات رنانه لامستي ،
    و شكرًا لإكمال هدف اباك و نشر تعليمك لنا بأي طريقه لنستفيد .

    الله يا رب يا حنان.
    اكرم ابائنا بالغفران و الدرجات العليا في الجنات ، و اغفر لنا التقصير اذا نسينا، و قلة التدبير ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى