كنت أسمع كلمات تتردد من بعض الأفراد في كل عيد؛ وذلك على مدى السنوات الأخيرة وهي..
فرحة العيد خفتت، وكم كان العيد أجمل حينما كنا أطفالًا..
وأنا في الحقيقة كلما نضجت كلما ازداد إحساسي بفرحة العيد.. فقد غدى شعور روحي نفسي يصوغ هذه الفرحة..
ومن منطلق نفسي يرى العالم النفسي “إريك فروم” أن الصحة النفسية من الواجب تعريفها في حدود ملاءمة المجتمع لحاجات الفرد النفسية، وليس في حدود ملاءمة الفرد للمجتمع. إذ يصف دور المجتمع في تحقيق الأفراد لحاجاتهم ومايهيئه من ظروف، فهو إما أن يساعد أفراده على التطور واصفًا إياه بالمجتمع السليم، وهو الذي يزيد من قدرة أفراده على الحب والعمل الإنتاجي، وتيسير فرص التقدم، وتنمية الإحساس بالذات من خلال استخدام القوى الإنتاجية، وبخلاف ذلك يصف المجتمع بالمرض حينما يعيق تطور الأفراد.
ولعل العيد يعد من أقوى مظاهر المجتمع المسلم الذي يسعى لإشباع حاجات أفراده النفسية.. فالحاجة إلى الارتباط بالجذور، تظهر جلية في التماسك الإنساني والإتحاد الروحي والارتباط برباط الإخوة الإنسانية؛ حيث يجتمع المسلمون في الفرحة بشعيرة دينية على اختلاف خلفياتهم العرقية والوطنية.
كما يشبع العيد الحاجة إلى الشعور بالفاعلية؛ إذ يسعى الإنسان إلى الإنجاز والوصول إلى نتائج عمله؛ وذلك تحقيقًا لفاعليته.
إن هذه الحاجة مطلب للإنسان منذ طفولته حيث وضح غروس K. Groos.1901 -المفسر الكلاسيكي للعب- أن الحافز الأساسي للعب لدى الأطفال بما يشمل من إحداث أصوات مختلطة، وتحريك للأشياء من حولهم، وغير ذلك من النشاطات هو الفرح كنتيجة. إذن شعور الفرح يعد محركًا فاعلًا لقوة الإنسان وإرادته. من خلال هذه الحاجة يتجلى شيء من حكمة العيد فهو جائزة؛ ولذا تكون الفرحة بتمام نعمة الله على الإنسان.. تمام سعي الإنسان للعبادة مما يعقبه الفرح في الدنيا كنتيجة، والأمل في الفوز بالجنة في الآخرة وهذا هو أصل فرحة العيد. من هنا فهمت كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم.
وليس كالعيد مظهر تتجلى فيه الحاجة إلى الاتصال، وهي أحد أهم الحاجات النفسية من وجهة نظر “فروم” لبناء حياة سوية. إذا تظهر ظواهر العلاقات الإنسانية الودية وكل ألوان المحبة. بات العيد في نظري فرصة لتجديد الود والحياة بحب واهتمام مع الآخرين، وغدا شعوري عميقًا بالانتماء. ومن هنا كانت فرحتي في كل عيد تقديرًا وامتنانًا لعلاقاتي الأسرية والاجتماعية. ومن هذا الحب تظهر طاقة الأفراد الداخلية عن طريق المساهمة والمشاركة والإحسان للمحتاجين، والذي تتجلى إليها الحاجة في هذا العام أكثر من أي وقت مضى.. إذ يقول الشاعر محمد الأسمر:
هذا هو العيد فلتصفُ النفوس به
وبذلك الخير فيه خير ما صنعا
أيامه موسم للبرّ تزرعه
وعند ربي يجني المرء ما زرعا
فتعهدوا الناس فيه: من أضرّ به
ريب الزمان ومن كانوا لكم تبعًا
وبددوا عن ذوي القربى شجونهم
دعــا الإله لهذا والرسول معًا
لقد غدى للعيد طعم جديد حينما استشعرت تلك المعاني، وحينما بات الوعي حاضرًا رأيته فرصة للأنس والاستمتاع وممارسة أنشطة للترفيه بلا تقييد بخطط محددة؛ مما يساعد في تجديد الطاقة النفسية والروحية.
من هنا أعتقد أن معنى العيد الآن عميق جدًّا، ويمس الروح قبل الجسد، فالعيد مناسبة دينية نفسية تضفي للروح توهجًا وتجددًا وتألقًا.. أما في الطفولة فقد كانت فرحتنا قاصرة وصغيرة جدًّا.. فرحة بالمظاهر الخارجية من لبس الجديد والبهرج من اللقاءات..
تقبل الله منا ومنكم وعيدكم مبارك وسعيد بعمق.
قال تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) آية (32) سورة الحج.