المقالات

قرية المليون كارثة

في الآونة الاخيرة يلاحظ الناس زيادة في انتشار الاضطرابات النفسية والعصبية في المجتمع، وذلك ملاحظ بالفعل حيث لا يكاد بيت يخلو من إحدى هذه الحالات.
بعض هذه الحالات يُشخص كقلق أو اكتئاب أو رهاب وغيرها، والبعض يتم التعامل معه أنه شيء آخر ، وتعددت الأسباب حسب ثقافة العائلة.
إلا إن المؤكد والمثبت بالدراسات هو أن نسبة هذه الاضطرابات في تزايد والأرقام تدق أجراساً لم تكن تصل لها قبلاً، فما الذي حدث.
برأيي أن أكبر سبب في انتشار الكآبة والحزن والقلق والتوتر بين الناس في السنوات الاخيرة ؛ سببه الأعراض الجانبية للتطور العلمي والتقني، وخصوصاً الإعلامي.
حيث يتعرّض الإنسان كل يوم لكمية من المناظر والصور والأخبار المحزنة التي لم يكن يشاهدها أو يعلم بها قبلاً، في السابق وحتى عندما كان هناك تلفاز وصحف، لم تكن الكاميرات في كل مكان لتُسجل كل واقعة محزنة لحظة وقوعها.
الإنسان وخصوصاً النساء والأطفال ليس مهيئًا فطرياً لتحمل هذا الكم المرعب من الحزن في عمرٍ واحد.
فهل هذا يعني أن الماضي لم تكن به ذات المآسي؟ ، بلى، وكانت أكثر من الآن، ولكن برغم آلاف السنين من الحروب والنزاعات ابتداءً بحروب الإسكندر المقدوني ، وانتهاءً بالحربين العالميتين ، إلا إن أغلب سكان الكوكب حينها لم يشاهدوا شيئاً من تلك المآسي بشكل مباشر، بينما هذا الجيل شاهد كماً مرعباً من مقاطع الانفجارات ، والإصابات ، والحوادث والدماء ، وفي بعض الاحيان حتى مشاهد لتقطيع رؤوس البشر وحرقهم.
كل هذه المشاهد تزيد عن نصيب الإنسان الطبيعي من هكذا مشاهد بمرات متعددة.
الطبيعي أن لا يشهد الإنسان بحياته منظر حرب، ولكن مع تقدم الإعلام والإنترنت أصبح يشاهد حرباً جديدة بكل أهوالها كل سنة.
وكذلك ينطبق ذلك على مشاهد الفقر والجوع والحزن والمرض.
مشاهد تلك الأسر التي تعرض أطفالها المعاقون، مشاهد الفقر والمجاعات، مشاهد الجثث والرفات ، مشاهد الدماء ومشاهد الأطفال يأكلون الفتات….
كل تلك المشاهد سواءً كانت حقيقية كالأخبار والصور ، أو درامية (تمثيلية) في نظري له تراكمات خفية على وجدان الإنسان ، لا يشعر بها مباشرة على نفسه وصحته النفسية، ولكن في نهاية المطاف تتراكم لتصبح عبئاً حقيقياً على نفسية الإنسان ومزاجه.
وقد يتساءل أحدهم لماذا الجميع ليسوا مصابين؟ إذا كان الجميع يتعرض لذلك.
والإجابة على ذلك تكمن في أربعة جوانب:
أولاً: أن البشر ليسوا سواسية في قدرتهم على التعامل مع هذه الأحداث.
ثانياً: أن البشر ليسوا سواسية في كثرة وحدة التعرض لهذه المشاهد.
ثالثاً: البشر يختلفون في البيئة والنشأة ووقت التعرض لهذه المشاهد أثناء النمو العقلي والجسدي.
رابعاً: أن نسبة كبيرة من هذه الاضطرابات يخفيها صاحبها عن الناس ، وقد لا يفهمها هو نفسه ولا يعلم ماهي، أو ما أسبابها
ولهذا فباختلاف هذه العوامل من الطبيعي أن تختلف النتائج، وككل الظواهر الصحية، قدرة الأشخاص على مقاومتها واستعدادهم الجيني لتطور هذه الأمراض تتفاوت بشكل كبير جداً بين الناس ..
يُقال :أن العالم قريةً صغيرة، وهذا واقع بعد الترابط الكبير الذي هو واقعنا اليوم ، فأنت تستيقظ صباحاً لتشرب فنجانًا من القهوة تم زراعتها في البرازيل ، ثم تمزجها بحليب طازج مستخرج من بقرة تبعد عن مسكنك ١٠٠٠ كيلومتر في محافظة الخرج لم يمض يومين على حلبها، ثم تفتح هاتفك لتشاهد العالم كله بين يديك.
تخيل معي قرية في الماضي، كل عام تقوم على بعض سكانها حروب ونزاعات تُستخدم فيها أشد الأسلحة رعباً، يستشري في بعضهم الفقر ويموت البعض منهم من الجوع والعطش، قرية يذبح بعضهم بعضاً بشعارات دينية وطائفية وقومية، قرية تقع فيها العديد من الجرائم والإصابات، على مشهدٍ من أهلها، وفوق ذلك فإن في تلك القرية مسرحاً صغيراً يقدم مشاهد لا تقل دموية ورعباً عن ما سبق وصفه ، كنوعٍ من الترفيه.
هل سيكون مستغرباً لو أخبرك أحد سكان تلك القرية أنه يشعر أنه غير مستقر نفسياً ؟
أهلاً بك في قرية العالم بعام ٢٠٢٠.

بعد أن استفضنا في توصيف المشكلة؟ ما الحل إذاً ؟
في نظري إن أولى وأفضل الحلول هي أن الوقاية خير من العلاج، فإن تأخرت الوقاية ووجب العلاج فإن أفضل العلاج هو إصلاح الخلل المسبب عوضاً عن معالجة الاعراض.

ولأنك يا عزيزي القارئ لن تستطيع حل مشاكل هذا العالم، فالحل يكون كالتالي:
أولاً: حاول قدر المستطاع أن لا تشاهد كل ما من شأنه أن يكدر خاطرك، حتى لو كان واقعاً تعيشه كل يوم، فما بالك بشيء لا يعنيك ويبعد عنك آلاف الكيلومترات.
ثانياً: الهم نوعان، هم يحتم عليك التفكير واتخاذ قرار أو تصرف معين، وهم لا تستطيع عمل شيء بخصوصه حتى ينقضي ، هذا الثاني يستنزف تفكيرك ووجدانك ولا يمكنك عمل شيء بخصوصه. فانتبه لكل أمر يهمك، فإذا كان من النوع الثاني فلا تشغل بالك وأرح قلبك، لأن انتظار المحتوم في أحيان كثيره هو أصعب من حصوله.
ثالثاً: دع مالا يعنيك إلى ما يعنيك، عليك كل فترة وفترة أن تستشعر ما يقلقك.
رابعاً: من الحكمة أحياناً أن لا تشغل نفسك بما لا ناقة لك فيه ولا جمل، فإن كان لك ذلك، فخذ ناقتك وجملك ولا تنشغل بالباقي.
خامساً: بين الحين والآخر خذ فترات راحة من التواصل مع العالم الخارجي ومشاكله ، استمتع بوقتك مع من حولك دون أخبار وهموم، لتعطي نفسك مساحة للتعافي.
سادساً: ليس من العيب طلب المساعدة عند الشعور بأي من الاضطرابات النفسية أو العصبية، فإن كان صعباً عليك ذلك من المحيطين بك أو أصدقائك، فاطلب المساعدة الطبية من طبيب الأسرة أو الطبيب النفسي، ولا ضير في ذلك.
سابعاً: تذكر إنه في هذا الزمان وهذا الحال، لم يسلم من هذه الدنيا أحد، فما أصابك قد أصاب غيرك وليس نقصاً فيك أو عيبًا ، فلا تخجل واطلب المساعدة.
ثامناً: احذر أن كنت ممن عافاهم الله أن تشمت أو تنتقص من غيرك.
وأخيراً: تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ )
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستبطئوا الرزقَ؛ فإنه لم يكن عبد ليموتَ حتى يبلغه آخرُ رزقٍ هو له؛ فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام)
والله تعالى اعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button