د. عبدالله العساف

المهنة الآثمة

قال صاحبي: ما الفرق بين المحللين السياسيين، والكهّان؟ ثم استرسل سريعًا فكلاهما يلتقط معلومة واحدة ثم يضيف إليها مئات المعلومات الخاطئة ذات التأثيرات السلبية، وربما القاتلة، فالمحلل العامل في المختبر عندما يخطئ في تحليله قد يقتل شخصًا واحدًا، أما المحلل السياسي فخطئه يشعل النيران التي تحرق المجتمع، وحتى يقطع الطريق علي، ويدلل على صواب ما ذهب إليه ختم حديثه بقول الله تعالى:﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ (الواقعة:82)

التحليل السياسي علم قديم النشأة، وكان يطلق عليه الاجتهاد السياسي؛ حيث برز في هذا العلم العديد من العلماء المسلمين كابن خلدون، وابن فضلان، وغيرهما، وهو علم وفن، علم له أصوله وقواعده، ومبادئه، وفن له مهاراته المتعددة التي يجب إتقانها، أما الكهانة فهي المهنة الآثمة المتفق عليها في الشرائع السماوية، لادعائها الغيب الذي هو حق لله، ولزعمها بقدراتها الخارقة في التقريب بين النفوس، وجلب الرزق، وهي أيضًا مهنة قديمة وجدت مع وجود البشر، أدواتها القدرة على الخيال الواسع وتخدير المستمع.

يوصف التحليل السياسي بأنه الطريقة التي نحكم بها على الظواهر والأحداث المختلفة، ولذلك فهو يحتاج إلى فهم الواقع السياسي وتشابكاته الدولية، من أجل البحث في الاحتمالات الممكنة، وتفسير وتفكيك ظاهرة معينة أو حادثة وقعت أو حديث قيل أو صورة التقطت، يقوم فيها المعلق السياسي بالإجابة عما يلي:
من الفاعل المستفيد، المتحدث، المستهدف وغيرها؟ (الاعتداء على ناقلات النفط في الخليج العربي).

ماذا حدث؟ الفهم الدقيق لمسار الأحداث، وقراءة الصورة بشكل واضح من كافة جوانبها، (كما يفعل إخصائي الأشعة).

لماذا حدث؟ وهنا لا يقف المحلل عند مجرد الدوافع الظاهرة فقط، بل يعتني بها بداية، ثم يذهب يبحث عن الأسباب الأخرى الخفية التي ربما لا يدركها غير المتخصصين والعارفين بأصول التحليل السياسي (انفجار بيروت).
التوقيت وأهميته ودلالاته، وهنا يحتاج المحلل للمعرفة الشاملة، والربط العميق بين الفعل والتوقيت، (قتل جورج فلويد والانتخابات الأمريكية).
كيف حدث؟ هل هو نتيجة خطأ بشري، أو خلل تقني، أو ثغرة أمنية (تفجيرات إيران المتكررة).
وما القوى الفاعلة في المشهد؟ (ما يحدث في ليبيا وشرق المتوسط).
وما مصالحها؟ (في انفجار بيروت، التغطية على قضايا الفساد السياسي وتداعياته الشعبية والدولية المحتملة وغيرها).
ومن يمولها؟ (دولة او جماعة، أو جهة).

وماذا ستستفيد؟ ( لكل حدث مستفيد وأهداف تختلف باختلاف الوقائع، والأماكن، والتوقيت، والضحايا).

وما استراتيجيتها؟، وما ايديولوجيتها؟.
وما حاجاتهم النفسية والاجتماعية؟ (التنظيمات الإرهابية).
كيف يفكرون؟ ( الذئاب المنفردة).
ومن يملك القوة والقرار في التأثير على مسار الأحداث؟ (أفراد- دول- جهات)
وأخيرًا الوقوف على المألات المحتملة للأحداث من خلال عملية تفكيكية وتركيبية لقطعة البازل المتناثرة، للوصول لصورة بانورامية واضحة، أما أصحاب الدجل والكهانة، فهم يخاطبون العواطف، ويسبرون النفس البشرية التي أمامهم دون أن تشعر، يتعرفون على مخاوف ضحاياهم وأمانيها، ثم يعيدون إنتاجها بطريقتهم الخاصة، ثم يبيعونها الوهم، وربما يقضون عليها شخصيًّا، أو يتسببون في قطيعة رحم، أو حتى الخروج من ملة الإسلام.
أين يكمن الفرق بين المنجم والكاهن، والمحلل السياسي المتخصص؟ الفرق الجوهري بينهما هو العلم والمعرفة والمقدرة على التنبؤ الواعي-وهذه الفروق الجوهرية تميز المحلل المهني عن غيره-، والتوقع والتخمين.

أما التنبؤ فهو تقدير مستقبلي يعتمد على نماذج إحصائية تم اختبار سلامتها، وجربت وتعطي نتائج دقيقة (الانتخابات الأمريكية) وهذه يختص بها المحلل الواعي، وأما التوقع، فهو تقدير مستقبلي معتمد على القدرة الذاتية في تطويع المعلومات بوجه عام، وهذه يشترك فيها الطرفان، وأما التخمين فلا يستند إلى أي أسس أو مؤشرات، ولكن فقط خيالات، وهذه يختص فيها المنجمون والكهّان بلا منازع.

قلت لصاحبي: تصبح جميع المهن -دون استثناء-آثمة عندما تتحول لمهن تبيع الوهم والدجل، وتسخر مهنتها لتحقيق مكاسب شخصية، ولا أدل على ذلك من إنشاء أجهزة خاصة لمحاربة الفساد، في أغلب دول العالم.
*العنوان مقتبس من كتاب بين يدي لجهاد الزين، بذات الاسم، الهمني فكرة المقال.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button