دخلت إلى مكتبتي الصغيرة؛ لأعيد ترتيب أوراقي بعد أن قضيت فترة الحجر المنزلي والإجازة الصيفية في محافظتي اليتيمة، فوجدت قرارًا من أصعب القرارات التي كُلِّفت بها برغبتي واختياري خلال مسيرتي العملية، وهو قرار تكليفي مديرًا -قائدًا تربويًّا- لإحدى مدارس التعليم العام، بعد أن أحيل قائدها السابق للتقاعد، وأصبح المكان شاغرًا لفصل دراسي كامل ينتظر من هم أمثالي فلا تسألوا عن أسباب خلو المكان فاللبيب بالإشارة يفهم ولا أحد يرغب بالكراسي فإنها لا تدوم.
توكلت على الله، ووافقت على العرض، وكتبت إقرارًا على نفسي فأنا سأتقلد منصبًا ولا بد أن أكون راضيًّا، وإليكم نص القرار:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد أقر أنا فلان بن فلان وبناء على رغبتي أنه لا مانع لدي من العمل مديرًا لمدرسة ……. للعام الدراسي 1432هجرية، وعلى ذلك أوقع.
وعلى كل حال فالذي يبدو لي أنني لم أكن في كامل قواي العقلية في تلك الأيام، بل كان هروبًا من ذلك القائد المتسلط صاحب الابتسامة (المزيفة)، وقصة الملك والوزير الحكيم، وقد رفض إخلاء الطرف إلا ببديل وهو يبتسم ويقول خير خير، فقلت: اعتبرني إصبع الملك واقطعها ولعله خير لك. فتبسم ودخل مكتبه، فجمعت قواي وقلت: (سيأتي يوم وتتقاعد، ولن يلتفت إليك أحد).
باشرت العمل قائدًا تربويًّا، وللمرة الأولى أجلس على كرسي الإدارة، وقد كان آخر يوم في نهاية الفصل الأول من ذلك العام -فقد وفىّ أخينا بوعده-حضر معلمو المدرسة، وجلسوا في مكتب الإدارة، وكل منهم يناظر الآخر، ويتحدثون ويتضاحكون بصوت مرتفع وكأنهم في مقهى، وأنا لست معهم فمصيبتي أكبر مما أرى وجلست أناظرهم، وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي هذه واخلف لي خيرًا منها. وبدأت التساؤلات بداخلي ما هذا الجنون الذي دفعني لاتخاذ هذا القرار؟ وكيف اتعامل مع هؤلاء؟
غادروا المكتب وهم يتضاحكون فهربت إلى جوالي، واتصلت بأحد الأصدقاء لأشكو حالي ومصابي، فقال بكل بساطة: إنهم يجسون نبضك “فرق تسد”، فقلت كيف يعني؟ فقال كم غرفة معلمين بالمدرسة؟ قلت: لا أعلم هذا أول يوم. فقال: إذا كانت واحدة اجعلها اثنتين. فزادني همًا على هم، فقد ذكرني بصاحبنا فقد فرقنا في دورين في كل دور غرفة للمعلمين.
ثم التحقت بإحدى الدورات في القيادة: وقال المدرب إذا أردت النجاح فاستخدم قاعدة “فرق تسد”، عدت للمنزل وأنا أفكر في هذه القاعدة الجديدة، كيف أستخدمها؟ وكيف أفرق ثلاثين معلمًا وخمسمائة وستون طالبًا؟
مكثت قائدًا لتلك المدرسة ثلاثة أعوام “فلا فرقت ولا سدت”، ولكن رزقني الله بقائد حكيم -أخذت منه موعد لزيارته فتأخرت نصف ساعة، ثم ذهبت إليه ولم يستقبلني، قال: موعدنا الساعة التاسعة مع بداية الفسحة وقد تأخرت، فكانت هذه أول رسالة تعلمتها منه (الانضباط في مواعيد العمل حضورًا وانصرافًا). فكل ما أذكره بعد هذا فالفضل يعود لله ثم له في توجيهي فلطالما استمتعت بزيارته وحديثه.
اكتسبت في تلك المدرسة خبرات تعليمية وقيادية لو التحقت بآلاف الدورات فلن اظفر بواحدة منها، لا أنكر أن الفضل في هذا كله يعود للأستاذ القدير: علي حسن الجبعان.
فمنه تعلمت الكثير وأبثها رسالة لكل قائد ملهم يريد النجاح، وأنا لا أدعي المثالية هنا ولكني جاهدت نفس للعمل بها، والحكم بالنجاح في القيادة أعتبره أمرًا نسبيًّا يختلف حسب طبيعة من زملاتهم وعملت معهم فهم من يقدر حجم نجاحك بقدر تأثيرك فيهم، ونوجزها في نقاط:
1. اجعل هدفك رضا الله أولًا، وخدمة دينك وأبناء وطنك، ووطّن نفسك وعلمها أنه مهما تُقدم من عمل فلن تسلم من النقد ولن يرضى عنك الجميع.
2. ابتعد عن (السلبيين) فهم أعداء النجاح، واختار الصديق الذي يزرع فيك روح القيادة والأمل، وعليك أن تأخذ بمقولة غاندي: “لن أسمح للآخرين أن يسيروا داخل عقلي بأقدامهم المتسخة” فلا تستمع للوشاة، ولا تنجذب للأفكار السيئة.
3. تعلم كيف تكون ناصحًا في مكتبك، وكيف تكون إنسانًا وقدوة ومؤثرًا في بيئة عملك.
4. تعلم معنى العفو والصفح والتغافل عن أخطاء الغير، وما تغرسه هذه المعاني في قلوب الآخرين من محبة واحترام وتقدير لشخصك قبل منصبك.
5. درب نفسك على تحمل الإساءة، والصبر على الأذى.
6. تعلم كيف تقف وتبتسم للمعلم المخلص وتثني عليه أمام الغير، وكيف توجه المقصر وتختلي به وتبين له وجهة نظرك مبتدأ بالجانب الإيجابي ثم السلبي، واستمع لرده وامنحه الفرصة الكافية للتعبير عن رأيه والدفاع عن نفسه.
7. استخدم أسلوب الكتابة في الثناء عند متابعة تقاريرهم، وأوراقهم، ودفاتر تحاضيرهم.
8. لا تحملهم مسؤولية أخطاء العمل، فأنت جزء منهم.
9. امنحهم الثقة فلا تكثر من الزيارات الصفية، وتابع أداءهم بعيدًا عن الجلوس الممل في الفصول الدراسية.
10. افهم أن القيادة ليست بالتفرقة والعنصرية؛ بل هي غرس للمحبة والتأخي والقيم بين أفراد مجموعتك ومعلمي مدرستك فهم سر نجاحك وتألقك.
11. احترم آراءهم، وشاورهم في أمرهم، واجعلوهم يختارون من القرارات ما يناسبهم مما لا يُخل بطبيعة العمل وأنظمته.
12. لا تشرع من القرارات ما يصب في مصلحتك الشخصية للحفاظ على كرسيك ومنصبك وتظن أنه يدوم لك؛ فإن لم تُعزل أو تَعْتزل عزلك العمر، وصدق القائل:
إن المناصبَ لا تدومُ لواحد
إن كنتَ تنكر ذا فأين الأولُ
فاغرس من الفعل الجميل َفضائلا
فإءا عُزلت فأنها لا تُعزلُ
13. تعلم كيف تقضي حوائج الناس من طلاب ومعلمين وأولياء أمور، ولكل من قصدك في حاجة، فلا تبخل عليه برأي أو مشورة أو نصيحة فالنفع ليس مقصورًا على المال فقط.
ففي الصحيح: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ”
وقال أبو العتاهية:
اقض الحوائج ما استطعـت
وكن لهمِ أخيك فارج
فــــلخـــــــير أيام الفــــــتى
يوم قضى فيه الحوائج
ورسالتي الثانية لزملائي المعلمين:
أنتم الأسياد، ونحن أصبحنا المتفرقين فلولاكم لما كان الوزير ولا الطبيب ولا المهندس ولا القائد ولا الأديب فالكل تلاميذكم، ولن يستطيع أحد يسلبكم السيادة ويكفيكم أن الله رفع شأنكم وأعلى منزلتكم فقال سبحانه:(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)؛ فأنتم النور الذي يضيء الطريق، وأنتم بناة المجتمع، وقادة النهضة، وغارسي الأخلاق، وزارعي القيم.
همزة وصل:
يقول ميكافيلي: “ليست الألقاب هي التي تشرف الرجال، بل الرجال هم الذين يشرفون الألقاب”.