أحب ليالي الهجر لا فرحًا بها،
عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
الهجر نوعان: عاطفي، وقد أفرد العرب له مساحات شاسعة في أشعارهم، فمنهم من هجر الحبيب ومنهم من هجر الأصحاب والأهل وكلّ له صبابته وعذره في الهجر، أما النوع الثاني فهو هجر الأوطان قسرًا أو طوعًا، ولنا في رسول الله “صلى الله عليه وسلم ” المثل حينما أخرجه قومه من تاج الأوطان ولؤلؤة المدائن مكة المكرمة، وقال لما عاد إليها بعد ذلك: “والله إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب البلاد إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت”، وابن عسال عند سقوط طليطلة قال لأهلها:
يا أهل أندلس شدوا رحالكم
فما المقام بها إلا من الغلط
والتاريخ مليء بشواهد الهجر العاطفي والمكاني، ولكن ماذا عن النوع الأخير الذي لم نسمع به – الهجر الإلكتروني – إنه ياقارئي الكريم هجر المنصات الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، الواتس، والانستغرام، والفيس بوك، واليوتيوب، وغيرها التي أصبحت عبئًا على كاهلنا بالرغم من فوائدها وتسليتها للجمهور، هل جرب المرء أن يهجرها على الرغم من أنها عند البعض حبيبة عينيه ولصيقة وسادته عند نومه، ينام ويستيقظ على محتواها، ولا يعلم أنها سبب في رفع ضغطه وسكره وتوتره، ناهيكم عن قلق المجموعات والأفراد الذين يرسلون ليلًا نهارًا دون إذن، مع تصفح سيل الأخبار السلبية في وسائل الإعلام التي يتلهف لها الجمهور، والتي يبلغ نسبتها في وسائل الإعلام أكثر من ٨٠% من المحتوى المتداول، وهذا التعرض المتواصل دون انقطاع مؤشر خطير، وله انعكاسات نفسية واجتماعية على الجمهور، ولا نريد الخوض في تفاصيلها فقد أشبعها المتخصصون دراسة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل يستطيع الفرد أن يهجر هذا البث الإلكتروني لمدة يوم من كل اسبوع ؟ وإن لم يستطع هل يمكن أن يجدول الهجر على مدار الأسبوع ؟ مثلًا يوم يستغني عن منصة أو أكثر، ثم بعد ذلك يستغني عن أخرى، لا لشيء سوى لراحة أعصابه من ضغط منصات التواصل الاجتماعي. جرب ولن تخسر شيئًا ولاحظ الفرق، وتذكر أن الهجر طوعًا أو قسرًا سنن اجتماعية اعتادها البشر وله فوائد كثيرة في مجمله، فهو يرتب العلاقة بين الهاجرين لبعضهما ويهذبها حينما يعودان إلى ديار حبهما، وقد يفتح لك آفاقًا جديدة، ومكاسب مادية ومعنوية لا تتوقعها.