المقالات

ثورة الشك وصريح الإيمان!

استمعت إلى المناظرة الأدبية التي جرت حول كتاب د. عبد الله الغذامي (العقل المؤمن/العقل الملحد) فخرجت بانطباعات عدة أبرزها ما يتعلّق بالشك، وضرورة التفريق بين أنواعه ودرجاته، والموقف منه تهوينا وتهويلا، ومدى جدوى طرحه في أسئلة فلسفية تحيله إلى ظاهرة علمية تستحق النقاش، والفرق في هذا السياق بين الشك الوجودي والشك القهري الذي هو من قبيل الوسواس، وربما كان كما ورد في الحديث النبوي من صريح الإيمان، والمعنى أنّ الإيمان إذا اكتمل بدت نوازع النفس والشيطان في وخز هذا اليقين دون أن يؤثّر ذلك عليه، وعلامته أن يجد المرء كراهة ذلك في صدره بحرج يتعاظم هذا الشعور الطارىء، كما وصف بعض الصحابة حالهم مع هذا العارض.
وفي نظري أننا بتعميق النقاش حول الشك، لاسيما الذي يحدث في مقتبل العمر، إنما نجذّره أكثر، وأرى أن ما يحدث هو عكس ما قاله الناقد د. عبد الله الغذامي، في المناظرة الأدبية. يرى د. عبد الله أننا نصنع من الشكوك وساس حين لا نلتفت إليها ونعالجها. و الحق أننا نصنع من الوساوس شكوكا حين نشتغل بها أكثر مما يجب، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتعامل معها على نحو يحاصرها بضد مقصودها، فهي عنده من صريح الإيمان، وهذا المنهج النبوي ضربٌ من تهوين الخطرات وعدم النفخ فيها والانشغال عنها لا الاشتغال بها.

ربما كان الإشكال اليوم هو أن الانفتاح على الثقافات مع ثورة الاتصالات هو الذي جعل مثل هذه الوساوس تعبّر عن نفسها على الملأ لتتحول إلى شك وجودي، وإلا فهي لا تعدو خطرات وهواجس كانت تعرض حتى للصحابة رضي الله عنهم، وربما تعرض لكل أحد، لذلك لابد من التفريق بين الشك بمفهومه الفلسفي الوجودي والشك العابر الذي يحدث عرضا في هيئة وسوسة هي من صريح الإيمان.

إن هذا التفريق مهم للغاية في علاج الظاهرة واحتوائها كي لا تتحول خطرات الشك العمرية”الوسوسة” في سن المراهقة إلى ظاهرة وجودية غير موجودة أصلا لولا أنّنا عمّقناها بهذا الخلط بين أنواع الشك ودرجاته.

لا أنفي أن الحوار مع من تجذّر الشك في أعماقهم مهم جدا، ولا جدوى من اللوم والتقريع والتغافل عن هذه الظاهرة التي بدأت تأخذ حيّزا واسعا بسبب انفتاح ثقافي عالمي لا يمكن التعامل معه إلا بصناعة الوعي، لكن من المهم أيضا ومن الوعي كذلك أن نحدد الفروق بين الشكوك، كما ذكر د. راشد العبد الكريم، في المناظرة الأدبية ذاتها، فلا نحوّل الوساوس التي هي صريح إيمان إلى شكوك وجودية، وهذا من التهوين الذي يدعو إليه الدكتور عبد الله، فالتهوين أحيانا يقتضي الانشغال عن هذه الخطرات لا الاشتغال بها فلسفيا وتحويلها إلى أسئلة وجودية وهي عابرة، بشرط أن نتركها تعبر فلا نضع لها حاجزا وجوديا، كما فعل عليه الصلاة والسلام حين اشتكى إليه بعض أصحابه هذه الخطرات والوساوس فقال:” ذلك صريح الإيمان” و” الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة”، كما ورد في الحديث، اللهم إلا أن يكون الشاب أو غيره داعية إلحاد وغارقا في الشبهات والشكوك فهذا يناقش بما تقتضيه حاله حتى يتبيّن له الحق.

وأما طرح هذه الأفكار والنقاشات في سياقها العلمي البحثي لصناعة الوعي وتعميق الإيمان فذلك مما تنهض به المراكز البحثية المختصة التي أولت ظاهرة الإلحاد اهتماما بالغا وصرفت جهودها لعلاج هذه الظاهرة، كمركز برهان ومركز تكوين على سبيل المثال.

خلاصة القول أن من الشكوك ما يحتاج إلى أن ننشغل عنه لا أن نشتغل به، لأن طبيعة الشك أحيانا طبيعة الجذوة النارية الكامنة التي إذا تُركَت خمدت وإذا نُفخت اشتعلت واستعرت فيما حولها من الهشيم وحينئذ سنجد أنفسنا وأبناءنا في حيرة بين ثورة الشك وصريح الإيمان.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button