المقالات

علموا أبناءكم حب الوطن .. فإن الأوطان لا تموت

كطفلة في التاسعة من عمرها ترى والدها كلَّ العالم، ولا تعرف من الناس بطلًا إلا واحدًا، نشأت تراه ببدلته العسكرية مسرعًا إلى عمله.. كل الأسئلة التي يمكن أن تفكر فيها ذات التسعة الأعوام تقفز إلى ذهنها، من حديث والدها حول الأحداث من حولها، ثم تراقب نظراته وهو يشاهد بشغف أخبار العاشرة، ترى المشهد يتكرر كل مساء، وتظن أنه جزء من هذه الأحداث التي يراقبها بعناية شديدة.
هذه الفتاة ذات التسعة الأعوام ترى في عيني والدها حبًّا كبيرًا لوطنه وولاءً لقادته، فيصبح لديها الأمر أكبر من وطن، يصبح عقيدةً وفكرًا وقصة عشق.. تتوالى الأسئلة في ذهنها الصغير وخيالها المحدود، وتتسارع الأحداث يومًا بعد يوم، عامًا بعد عام .. تتسارع الأسئلة في ذهن تلك الطفلة الصغيرة، لكن والدها مشغول عنها بما هو أهم.
وفي غضون ذلك لا يتركها دون توصية، ومن دون توجيه، فقد أطلعها على كتاب ضخم، أكبر من أن تحمله طفلة في التاسعة من عمرها، بالنسبة لها كان كتابًا عظيمًا، مثيرًا في عنوانه، وفي أحداثه التي تشبه فيلمًا غامضًا لا يمكن لها أن تنسى شكله، ولا غلافه، ولا عنوانه، إنه كتاب “معجزة فوق الرمال” للمؤرخ أحمد عسة، يقع في 856 صفحة، صُدر عام 1965م.
ثم كيف لطفلة بمثل هذا العمر أن تفهم ما يتحدث عنه الكاتب؟ بل كيف لها أن تحمل كتابًا بذاك الوزن؟ وتقدر على استيعاب ذاك الفكر الذي يحتويه؟ لقد فتحت دفتيه، ولم تمل من الغوص في صفحاته والتنقيب عما فيه، وتدوين تواريخ وأسماء كثيرة؛ ومن بين تلك الصفحات تمثلت أمامها شخصية بطل جديد مختلف عن كل ما رأته من قبل، شخصية جذبتها من أول الصفحات إلى آخرها، إنها شخصية موحد هذه البلاد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، موحد شتات هذه الصحراء المترامية الأطراف التي لا يمل الكاتب من وصف ما فيها من تفاصيل دقيقة، رمالها ووهادها وجبالها، فينبري لوصف بطل ليس ككل الأبطال، البطل عبدالعزيز.. كيف تمكن هذا الشاب القادم من الماضي أن يحول هذه الصحراء العظيمة الكبيرة المخيفة المرعبة ذات الرمال المتحركة التي تبتلع كل من يظن سكونها هدوءًا إلى بلاد عظيمة تنبض بالحياة؟ كيف تمكن أن يحول هذه الصحراء إلى منجم ذهب وخير وبركة.. إنها الرؤية الثاقبة والشجاعة القوية.
كانت حقًّا رواية واقعية مثيرة وكتابًا تاريخيًّا جذابًا، لكنه حتمًا أكبر من أن تستوعبه الطفلة (كاتبة هذه السطور المتواضعة)، ومع ذلك عاشت معه طفولة غير عادية، تنظر بفخر لوالدها بطل طفولتها وهذا البطل الأسطوري الذي كان يخرج من صفحات الكتاب يمضي بخيله هنا وهناك، يصول ويجول، ويبني ويوحد، ويبسط الأمن والسلام على أرضٍ كانت لعقود طويلة مسرحًا للسلب والفوضى والتناحر!
وكانت ‏المعجزة العظيمة التي صورها المؤرخ هي اكتشاف النفط في الصحراء القاحلة، وقدرة البطل عبدالعزيز آل سعود على أن يبسط السلام والأمان لقوافل الحجاج والمعتمرين المتجهين لأطهر البقاع؛ حيث كان الأمان أشبه بالمستحيل إبان فترة الحكم العثماني الذي كان تسلطه يهدد أمن وسلامة الحجاج والمعتمرين، ثم تحقق له بفضل الله ما هو أكبر من هذا، وأبعد من ذاك.
واليوم وبعد مرور عقود من كتاب معجزه فوق الرمال تمنيت -أنا طفلة الأمس- لو أن يرى الكاتب (العسه) المعجزات التي نعيشها اليوم، كما تمنيت لو دُرِّس هذا الكتاب، وقرأه طلبة المدارس والجامعات.
لو كان الأمر لي لأكتفيت بفصل واحد لكل صف دراسي، لأكتفيت في مقرر التاريخ بدراسة فصل من فصول حياة الموحد لهذه البلاد؛ من أين بدأ؟ كيف عاش؟ كيف خرج من الرياض؟ وكيف عاد إليها منتصرا؟
لو كان الأمر لي لخصصت يومًا من كل أسبوع لدراسة جغرافيا هذه الأرض المباركة من شرقها إلى غربها من شمالها إلى جنوبها! ولو كان لي من الأمر شيء لأكتفيت من كتب التاريخ بتاريخ الجزيرة العربية من الدولة السعودية الأولى إلى العصر الحديث، ولو كان لي من الأمر شيء لقررت على طلبة مقررًا لعلوم جيولوجيا المناطق الصحراوية، وآخر لأسماء آبار البترول، ولأكتفيت من المقررات بتواريخ هذه الآبار، وكل المعاهدات التي تمت خلال 60 عامًا الماضية.
ولو كان لي من الأمر شيء لقررت دراسة عمارة الحرمين الشريفين في كل عصر من عصور الملوك السعوديين، وما تم في كل حقبة من الحقب، ولو كان لي من الأمر شيء لقررت دراسة التاريخ كل منطقة من مناطق المملكة العربية السعودية، ولخصصت مقررًا لدراسة خطب الملوك السعوديين في المحافل الدولية دراسة وتحليلًا، ومقررًا آخر لدراسة دوافع خصوم السعودية على مر العصور، وكيف انتهت بهم تلك الخصومات إلى زوال، وبقيت المملكة شامخة بعزّ.
لو كان لي من الأمر شيء لخصصت جائزة لدراسة السير من المحنكين من أبناء آل سعود، منهم على سبيل المثال لا الحصر الأمير الشاعر خالد الفيصل المستشار الأمين، والأمير السياسي سعود الفيصل وزير الخارجية الأقوى حجةً والأقدر فهمًا في السياسة الدولية.
لو كان الأمر لي لقررت دراسة الزراعة في السعودية، والحرف والفنون والتراث في العرضات والفولكلور.
‏لو كان الأمر لي لجعلت الاحتفال غير محصور على الأول من الميزان، بل هو في كل زمان.
اليوم الوطني … هذا اليوم مهم لهذا الجيل، ليس كيوم وطني فحسب، بل كونه يومًا تاريخيًّا لبطل عصري حلم وتحقق له الحلم، كانت لديه رؤية نعيش تحقيقها اليوم، فيجب أن يعرف ويقدر هذا الجيل والأجيال التي تليه كيف تحققت للسعودية كل يوم معجزة فوق الرمال، أين كانت وأين أصبحت، وكيف استطاعت أن تتحول في خمسة عقود من صحراء إلى أحد الدول العظمى من الدول العشرين! لا يمكن حصر ما تحقق إلا بجهود كبيرة تدرس؛ ليستفيد منها قارئ التاريخ السياسي الحديث.
هذا اليوم تذكر معه سيرة وإنجازات المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز آل سعود في توحيد المملكة العربية السعودية، وأبنائه من بعده الملك سعود، الملك فيصل، الملك خالد، الملك فهد ثم الملك عبدالله رحمهم الله جميعًا، ثم الملك سلمان أطال الله عمره وولي عهده الأمين.
وإن كان من معجزة حقيقية فهي أن المملكة العربية السعودية لم تعش في هذه الجغرافيا وحدها فقط، ولكن كل العالم هفت أفئدة أبنائه إلى قلب العالم الإسلامي وقبلة المسلمين.. إلى مكة المكرمة والديار المقدسة، فكانت المملكة عند قدر المسؤولية اهتمامًا وضيافة وتكريمًا لهم، وإذا كان كل الإنجازات في كفة فإن الكفة الأرجح والأعظم والأكبر التي يحافظ عليها السعوديون كل هذه العقود هي الأمن والأمان للمعتمرين والحجاج والزائرين بعد أن كانت تقطع بهم السبل قبل الوصول إلى وجهتهم مكة المكرمة، وتحميهم حتى اليوم بقدرة الله من عبث العابثين وتفشي الأمراض.
بعد كل هذا؛ هل يستحق ما قام به الملك الموحد أن يطلق عليه معجزة؟
بعد كل هذا؛ أليس من الإنصاف القول أن ما نعيشه اليوم من رخاء وعز ونصر وتمكين هي المعجزة العالمية الماثلة لكل ذي بصر وبصيرة؟ خمس وخمسون عامًا منذ كتابة “معجزة فوق الرمال” كانت كفيلة بتحقيق المعجزات، كما صورها أحمد عسة المؤرخ في كتابه، لكنها لم تكن معجزة واحدة بل معجزات!
‏علموا أبناءكم حب الوطن….ازرعوا فيهم أن الأوطان لا تموت.
وجهني والدي -رحمه الله- يومذاك إلى كنز من الكنوز التاريخية التي فتحت عيناي.. وأثارت أسئلتي، وعززت عقيدة الولاء لوطن ليس ككل الأوطان.. وأنا اليوم في الذكرى التسعين أحييت صفحات كتاب “معجزة فوق الرمال” في ذاكرتي، وتمثلت صفحاته أمامي، وكلي أمل بإعادة قراءته بأعين شباب وأطفال اليوم ليفهموا حقيقة لا مبالغة الماضي بعيون الحاضر والحاضر بتطلعات المستقبل.
في عيدك التسعين يا وطني أقول كل عام وأنت بخير، ومعجزات الله تتوالى على أرضك، وراية التوحيد ترتفع خفاقة في علمك، لا إله إلا الله، محمد رسول الله .. بها نحيا وعليها نموت.

Related Articles

One Comment

  1. بارك الله فيك جميل جداً. بارك الله في بلادنا حكومة وشعباً تاريخاً وجعرافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button