قبل مائة وخمسة أعوام، وبالتحديد سنة 1915م اجتمعت القوّتان الاستعماريتان بريطانيا العظمى، التي لا تغرب عنها الشمس، وفرنسا ذات النفوذ الثقافي والاقتصادي، ومن خلفهما الروس الطامحين إلى تقسيم تركة الرجل المريض الدول العثمانية في الشرق الأوسط بعد ترنّحها إبان الحرب العالمية الأولى، ولكن دهاة السياسة البريطانيين لم يرغبوا بمشاركة الروس لهم في هذه البقعة من العالم، فاستأثروا هم والفرنسيين بذلك من خلال تكليف كلٍّ من الإنجليزي مارك سايكس، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بوضع خطة نظرية مهمتها وضع أيدي الدولتين على التركة بعيدًا عن الروس الراغبين في مشاركتهم كعكة الأراضي العربية المليئة بالخيرات.
ولكن كالعادة كما يقول المثل الشعبي: (ما شافوهم يسرقون، شافوهم وهم يتقاسمون)؛ حيث سرّبت روسيا بعد سقوط عرش القيصر وقيام الاتحاد السوفيتي خبر تلك المعاهدة قبل التوقيع، نكاية بالدولتين الغاصبتين، وكأن الروس أطهر منهما.
ولكن سرعان ما أنكروا ذلك، خصوصًا قبل قيام الشريف حسين بثورته، ومطالبته بملك للعرب من إسكندرون شمالًا إلى باب المندب جنوبًا؛ حيث ناقش الإنجليز فيما سمعه، إلا أنّهم طمأنوه بمقولة العرب الشهيرة عندما يقعون في مأزق (كلام جرائد).
وما إنْ دخل اليوم 16 مايو 1916م، حتى أعلنت الدولتان عن حقيقة تلك المعاهدة، وتم تقسيم الشرق الأوسط بينهما، فضلاً عما أخذه الإيطاليون في شمال أفريقيا.
ولم يسلم من ذلك إلا نجد وملحقاتها التي لم تكن مطمعًا؛ حيث كانت عبارة عن صحاري مترامية الأطراف لا أنهار ولا جنان ولا رياض وارفة تحفّها، ناهيك عن البترول الذي لم يكتشف بعد فيها، ولله حكمة في هذا الأمر؛ حيث حفظها من مكر المتربصين حتى وقفت على قدميها وأعلنت عام 1932م عن اسمها المملكة العربية السعودية، لتكون حامية الحرمين الشريفين، ومأزر العروبة الأصيلة، وقائدة الاقتصاد العالمي منذ اكتشاف البترول فيها عام 1933م، ومنذ ذلك الحين وهي بين مطرقة القوى العظمى الطامعة في ثرواتها، وسندان الفرس والترك، وبين هذا وذاك قاد حكّام السعودية دولتهم في حقول الألغام الدولية، منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز -رحمه الله-، وحتى الملك سلمان -يحفظه الله-، حتى بلغوا بها برّ الأمان، فلم يستطع أحد أنْ يمس شبرًا فيها مهما كان شأنه العالمي.
ولكن منذ عام 2011م والشرق الأوسط يغلي برؤية جديدة، مفادها أنّ التركة القديمة التي يقبع خلّفها البريطانيون والفرنسيون، لم تعد تأتي أُكُـلها، فدخلت أمريكا للمعترك بثقلها السياسي، ممثلة في الحزب الديمقراطي بما يسمى الربيع العربي، لترسم خارطة جديدة تتوافق مع أهوائها، فجاءت بشركاء جدد يسمون أصحاب الإسلام السياسي وهم كلٌّ من (تركيا وإيران)، ليعثوا في أرض العرب فسادًا، من خلال الخونة الممثلين في (الإخوان المسلمين)، و(الريال القطري)، الذي يريد أنْ يصبح ذو شأن في المنطقة، فـعقدة النقص التي يشعر بها، جعلته يبحث عن النفوذ فوق جماجم أطفال العراق، وسوريا، وليبيا، والبحرين، واليمن، ومصر.
فتبجحت إيران باحتلال أربع عواصم عربية، هي (بغداد، وبيروت، ودمشق، وصنعاء)، وغرّدت أنقرة بعصافير الإخوان المسلمين فوق أشجار النيل وبالمرتزقة في شمال سوريا والعراق وليبيا اليوم.
ولكن هيهات وفي العرب آل سعود، حيث وضع الملك عبد الله بن عبد العزيز -يرحمه الله- يده اليمنى في المنامة ويده اليسرى في القاهرة وقال هما خط أحمر، فعاد الأمر لنصابه والأرض لأهلها، ومن إنْ دخل عام 2015م، حتى قطع الملك سلمان بن عبد العزيز بالسيف الأجرب يد إيران في اليمن، ومنذ ذلك الحين والسعودية تعقد المجالس التنسيقة مع الدول العربية المتضررة، التي انكوت من لهيب الثورات الخرافية، والاحتلال الأعجمي للرفع من معاناتهم، فضلاً عن التحرك الدبلوماسي والاقتصادي، حتى أصبحت كلًا من إيران وتركيا تترنحان بحثًا عن مخرج لأزماتهما المتلاحقة، سواء في الميادين السياسية أو الظروف الاقتصادية.
نعم إنّ المملكة العربية السعودية لن تسمح بسايكس بيكو إيراني وتركي مهما كان لديهما من دعم أو توافق في الأهداف، فأرض العرب للعرب، ومن يطالع التاريخ سوف يدرك الدور الكبير الذي تبذله هذه الدولة العظيمة في حفظ التوازنات في الشرق الأوسط، فضلًا عن العالم كله، لذلك يجب أنْ يعلم أولئك لمخدوعين بالطربوش التركي وبالعمامة الفارسية أنّ العقال العربي أكبر من أنْ يسقط من على رؤوس رجاله.
همسة:
يقول خالد الفيصل:
حنا زرعنا الحب بـأرض خصوبه،
وأنتم زرعتوا كره الأجيال بتراب
وحنــا دعينا السلم نوبة ونوبـه،
وأنتم حمــام السلم بعتوه بغراب
يا من دعا للحرب ما درك خطوبه
لا تحسب إنّ الحرب تهديد وخطاب.
من شب نار الحرب يصلى شبوبه
ومن ثوّر الفتنة تعرّض للأسباب
بقلم:
عبدالرحمن القراش