الصحابي الزبير بن العوام كان يأتيه الرجل بالمال ليستودعه إياه ، فيقول : لا، ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة “وكان نتيجة ذلك أن بلغ مجموع ما تجمع لدى الزبير من أموال كما أحصاها ولده عبد الله” ألفي ألفي ومائتي ألف درهم ” أي مليونين ومائتي ألف درهم وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك العهد. وعلى ذلك فقد عرف المسلمون النظام المصرفي الذي تنتقل فيه الوديعة إلى قرض يرد مثله عند طلبه، وهو ما عرفه القانون الفرنسي بعد ما يزيد على عشرة قرون وأطلقوا عليه اصطلاح الوديعة الشاذة أو الناقصة تمييزًا لها عن الوديعة التَّامة . والنظام المصرفي في قمة تطوره المعاصر يحقق غاية ترمي لها الشريعة الإسلامية وذلك أن الأموال المودعة في البنوك تبقى مملوكة لأصحابها، ولكن إيداعها لا يمنع من الاستفادة منها بإتاحة الفرصة لتوظيفها في مشاريع نافعة، إلا أن التطور المصرفي الحديث قد جعل من هذا المنهج الصالح في فكرته عملًا .. غير عادل في نتائجه؛ لاقترانه بالربا المخفف على هيئة فائدة تحميها بعض الأنظمة، ولكن مع ظهور المصارف الإسلامية في الوقت الذي تتعامل فيه المصارف الأخـرى بمعـاملات وصيغ تقوم على الربا تقلصت تلك التعاملات، وتميزت بقيامها على أساس تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية واحترامها للضوابط الفقهية الموضوعة لتطبيقها.
وعند النظر إلى العمليات الائتمانية التي تقدمها المصارف لعملائها نجد أن لها صورًا متعدِّدة، ولعل الضمانات من أهم الوسائل التي تعمل على تسهيل تمويل العمليات التجارية سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو الدولي، والذي من غير الممكن في مجال التجارة خاصة الدولية التعامل بها على أساس الثقة؛ نظرًا لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وكثرة التقلبات التي قد ينتج عنها عدم تنفيذ الالتزام أو سوء تنفيذه .
وأمام المخاطر المستجدة التي قد تواجه العمليات الائتمانية تضاءلت قيمة الضمانات التقليدية التي كان يقدمها الملتزم للمستفيد، والتي كانت تَعتبر (الكفالة) التقنية القانونية المطلوبة كضمان للتنفيذ، إلا أنها على مستوى التجارة الدولية لم تعد كذلك؛ نظرًا للصفة الاحتياطية لتعهد الكفيل الذي يمكنه أن يدفع مطالبة الدائن عن طريق الإدلاء بالدفوع الممنوحة للمدين، وأن يناقش في مدى صحة التزام، وعليه تم استبعاد التعامل بالكفالة في المجال الدولي، وبالتالي تم اللجوء إلى الوديعة النقدية التي تعتبر صورة من صور الضمان العيني، وبموجبها يحوز الدائن نقود المدين حيازة فعلية تسمح له بالضغط عليه، والحصول على حقه. غير أن هذا الإجراء يؤدي إلى تجميد النقود لفترة طويلة دون استغلال وتحرم المودع من استثمار أمواله؛ لذا كان ولا بد من اللجوء إلى تقديم بديل للإيداع النقدي بموجب نوع من الضمانات المصرفية يوفر للدائن كفالة من نوع مستقل وعلى أساس من السهولة والأمان، فظهر ما يسمى بخطابات الضمان أو الضمانات المستقلة.
ويعد “خطاب الضمان” من أهم صور الائتمان المصرفي وهو مصطلح مستورد أوجده العرف التجاري الدولي كبديل للتأمين النقدي لتلبية احتاياجات التجارة، وأول مابدأ في فرنسا وألمانيا ثم انتشر في بقية دول العالم لكونه أداة فعالة في إبرام الصفقات على المستوى المحلي والدولي، ورغم الجهود الدولية إلا أنه لا يوجد قواعد موحدة لخطابات الضمان وقد أعدت لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي صياغة مشروع لهذه القواعد، وكانت أساسًا لمشروع غرفة التجارة الدولية بشأن الكفالات والضمانات المتعلقة بالمدفوعات الدولية عام 1970. وفي عام 1971 قام معهد ماكس بلانك بطلب من لجنة السوق الأوروبية المشتركة بصياغة مشروع مماثل خاص بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية وتم تخصيص المادة 9 لأحكام الضمان المستقل وبقي المشروع حبيسا! ، وفي عام 1978 قامت غرفة التجارة الدولية بوضع قواعد موحدة للضمانات التعاقدية غير أنها غير مُلزمة. وتظهر أهمية خطاب الضمان عندما يريد المقاول أن يدخل في مناقصات أو مشاريع للقيام بتنفيذ مشروع ورست عليه المناقصة فعلا، يجد نفسه مضطرا إلى تقديم ضمان نقدي لتلك الجهة طارحة العطاء أو المشروع؛ لأنها تطلب دفع مبلغ معين من المال كتأمين تأخذه في حالة التخلف عن الالتزام، أو تأخذه لضمان جدية عرض كل شخص.
وقد عرَّف فقهاء القانون خطابات الضمان بتعريفات كثيرة قد تختلف في صياغتها لكنها متفقة في جوهرها ومضمونها، فهي لا تخرج عن القول بأنه : “تعهد صادر من المصرف بناء على طلب العميل، يلتزم فيه المصرف بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين بمجرد المطالبة الأولى للمستفيد، ودون إمكانية إثارة أي دفوع أو احتجاجات متعلقة بعلاقته بالعميل”. ورغم انتشار التعامل بخطابات الضمان إلا أنه لم يُحط بتنظيم مستقل على غرار ما جاء في قوانين الدول الأخرى، إلا أنه يمكن تصنيفه ضمن الالتزامات التي تنشأ عن مجرد توقيع المصرف استنادًا إلى مركزه المالي، وبالتالي فيمكن إحالة تنظيمه وبصفة ضمنية إلى مؤسسة النقد العربي السعودي “ساما”، حيث أصدرت مبادئ الالتزام للبنوك والمصارف التجارية العاملة في المملكة العربية السعودية، والتي حلت محل دليل الالتزام بالأنظمة للبنوك العاملة في المملكة الصادر في عام (1429هـ / 2008م). وهنا لا بد من القول إنه عند تطبيق خطاب الضمان يجب مراعاة الاستقرار ووضوح الإطار التنظيمي لحماية حقوق الأطراف، لذلك نجد خطابات الضمان في القانون الفرنسي أصبح لها وجود من الناحية التشريعية بعد أن كانت مجرد أعراف مصرفية، فبعد التعديل الذي ورد على التأمينات بموجب الأمر رقم 346 / 2006 نجد المادة 2321 من القانون المدني الفرنسي قد نصت على تعريف لخطاب الضمان حيث ورد فيها أنه : “التزام يلتزم بموجبه الضامن بناء على التزام من طرف الغير، بدفع مبلغ معين بمجرد المطالبة الأولى أو بناء على الكيفيات المبينة. والضامن لا يُلزم بالوفاء في حالة وجود غش أو تعسف ظاهر من طرف المستفيد أو التواطؤ مع الآمر. كما لا يمكن للضامن إبداء أي اعتراض على الدفع ….”. وبالتالي يصبح خطاب الضمان عقدًا مسمى، وعليه سار المنظم المصري كما في المادة 355 من القانون التجاري الجديد سنة 1999 م ، وكذلك القانون التجاري الكويتي في المادة رقم 382، وقانون المعاملات التجارية الاماراتي في المادة 414، وكلها متشابهة من حيث محاولة إبراز أهم الخصائص التي تميز خطاب الضمان عن الكفالة .
وتتنوع خطابات الضمان المصرفية بحسب نوع المعاملة التي تضمنتها، والأكثر على تقسيمها بحسب الصيغة، وبحسب الغرض وبحسب النطاق، فبحسب الصيغة تنقسم إلى خطابات الضمان المشروطة وهي على نوعين: خطاب الضمان المبرر وخطاب الضمان المستندي، وخطابات الضمان غير المشروطة : وهذا النوع هو الأكثر انتشارًا، وبمقتضاه يتعهد المصرف الضامن بالدفع لدى أول طلب من المستفيد دون الرجوع إلى عقد الأساس. وأما تقسيم خطابات الضمان من حيث الغرض فتنقسم إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول : خطابات ضمان الصفقات: وهي من أكثر الضمانات انتشارًا بالنسبة للمؤسسات لضمان حقوقها في الصفقات التي تُبرمها مع المقاولين أو المورِّدين، ومن الأنظمة التي تنظم هذه الصفقات في النظام السعودي نظام المنافسات و المشتريات الحكومية، فقد جاء في الفصل الخامس منه ، المادة 12 : “على الجهة الحكومية التخطيط المسبق لأعمالها ومشترياتها والتنسيق مع الوزارة في توفير الاعتمادات المالية لها، وتلتزم في بداية كل سنة مالية بنشر خطة تتناسب مع ميزانيتها تتضمن المعلومات الرئيسة حول أعمالها ومشترياتها خلال هذه السنة، وذلك دون إخلال بما يقتضيه الأمن الوطني من سرية ….. ” وتشمل خطابات ضمان الصفقات ثلاثة أنواع من الضمانات: أ – خطابات الضمان الابتدائية (المؤقتة) :جاء الفصل الثاني المادة 41 من نفس النظام: “يُقدم المتنافس مع عرضه ضمانًا ابتدائيًّا بنسبة تتراوح من (1%) إلى (2%) من قيمة العرض. ويستبعد العرض الذي لم يقدم معه الضمان. تحدد اللائحة الأحكام المتعلقة بالضمان الابتدائي” ، ب – خطاب الضمان النهائي (ضمان حسن التنفيذ): بعد رسو الصفقة على أحد االمتقدمين بعطاءاتهم يتقدم لتوقيع العقد النهائي، ويلتزم بتقديم ضمان جديد لتغطية مخاطر هذه المرحلة المتمثلة في سوء التنفيذ أو التأخر. تنص المادة 61 من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية: “يجب على من تتم الترسية عليه تقديم ضمان نهائي بنسبة (5%) من قيمة العقد، وذلك خلال (خمسة عشر) يوم عمل من تاريخ إبلاغه بالترسية. ويجوز للجهة الحكومية تمديد هذه المدة لمدة مماثلة. وإن تأخر عن ذلك فلا يُعاد إليه الضمان الابتدائي، ويتم التفاوض مع العرض الذي يليه، وفقًا لأحكام النظام، ويجوز زيادة نسبة الضمان بعد موافقة الوزير” ونصت المادة 62 : “يخفض الضمان النهائي في عقود الخدمات ذات التنفيذ المستمر سنويًّا بحسب ما يتم تنفيذه من الأعمال، على ألا يقل الضمان في جميع الأحوال عن (5%) من قيمة الأعمال المتبقية من العقد”. جـ_ خطاب ضمان رد الدفعات: وبحسب نص المادة 66 من نظام المنافسات والمشتريات : ” للجهة الحكومية أن تدفع للمتعاقد معها دفعة مقدمة مقابل ضمان بنكي مساوٍ لهذه القيمة، وفقاً لما توضحه اللائحة”. والقسم الثاني: خطابات الضمان الجمركية : والغرض الأساسي من هذا النوع من الخطابات هو ضمان حقوق الخزينة العامة، جاء في المادة 94 نظام (قانون) الجمارك الموحد لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية: “تحدد اللائحة التنفيذية شروط التطبيق العملي لوضع الإدخال المؤقت والضمانات الواجب تقديمها” والقسم الثالث: خطابات الضمان الملاحية . أما تقسيم خطابات الضمان من حيث النطاق فتنقسم إلى: أ – خطابات الضمان المحلية (الداخلية)، وخطابات الضمان الدولية (الخارجية) .
وعلى اعتبار أن حقوق والتزامات الأطراف في خطاب الضمان تتوقف على تحديد التكييف القانوني الصحيح لهذه العملية، فلا بد من النظر في الأساس القانوني الذي تستند إليه والذي اختلف بشأنه أغلبية فقهاء القانون ، فمنهم من كييف خطابات الضمان على أساس أنها كفالة يقدمها المصرف للمستفيد لضمان عميله، وإليه اتجهت غالبية الآراء في بداية ظهور خطاب الضمان، والحقيقة أن خطاب الضمان يتميز عن الكفالة، إذ إن الكفالة لا تصلح لتفسير الآثار القانونية لعملية خطاب الضمان، ومن أهمها استقلالية التزام المصرف عن التزام عميله، حيث إن من أهم خصائص الكفالة أنها عقد تابع، وخطاب الضمان التزام مستقل ومجرد، فهو التزام يظل صحيحًا وقائمًا، ولو بطل التزام العميل اتجاه المستفيد. كما يلتزم الضامن بالدفع ولو اعترض العميل على ذلك . ومنهم من كيف خطاب الضمان على أساس الإنابة القاصرة من خلال ضم ذمة شخص إلى ذمة المدين الأصلي، مما يزيد من الحماية الممنوحة للدائن بتوفير ضمان أقوى لاستيفاء حقه، ومع أن نظرية الإنابة القاصرة يمكن أن تلتقي مع خطابات الضمان في بعض الجوانب القانونية، كالتزام المصرف بصفة أصلية ومستقلة إلا أنها مع ذلك لا تصلح كأساس قانوني لخطاب الضمان.
ومنهم من كيف خطاب لضمان على أساس صلاحية الاشتراط لمصلحة الغير فالاشتراط لمصلحة الغير هو تصرف قانوني، يشترط بموجبه شخص (المشترط) على شخص آخر يسمى (المتعهد) أن يؤدي إلى شخص ثالث أجنبي عن هذا التصرف يعرف بالمنتفع أو المستفيد حقًّا معينًا.
ومنهم من كيّف خطابات الضمان على أساس الإرادة المنفردة وقد أخذت بعض الأنظمة العربية بفكرة الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام، وذهبت إلى تأسيس خطاب الضمان على فكرة الالتزام بإرادة منفردة، باعتبار أن المصرف يلتزم وبإرادته المنفردة بأن يدفع للمستفيد ولأول طلب المبلغ المعين في الخطاب. والواقع العملي يظهر أن خطاب الضمان من عمليات المصارف الناشئة من العرف والممارسة خارج كل تدخل تشريعي، وبالتالي لا يمكن إدخاله في إحدى الطوائف القانونية التقليدية قبل أن تعرف هذه العمليات، وبالتالي فإن خطاب الضمان هو عقد غير مسمى، ذو طبيعة خاصة له مميزاته.
أما إذا أردنا معرفة الحكم الشرعي لخطابات الضمان فلا بد أن نعلم أن الفقهاء المعاصرين يقع على عاتقهم مهمة ربط المسائل المستجدة في مجال المعاملات المالية بقواعدها الشرعية، والبحث عن الحلول الفقهية عن طريق إخضاع الواقع للفقه الشرعي، وخطابات الضمان من النوازل المعاصرة ومن مستجدات المعاملات المالية التي اختلف الفقهاء في حكمها وتكييفها كما اختلف في ذلك فقهاء القانون. فمنهم من رأى تكييفه على أساس إلحاقه بعقد من العقود المسماة، ، فقال بأن هذا العقد يعد كفالة وهي ضم ذمة أخرى إلى ذمة الملتزم أو المضمون عنه، فيصبح للدائن مدينان يطالب أيهما شاء.
والملاحظ يوجد تطابق بين الكفالة وخطاب الضمان من عدة جوانب، غير أن هذه المطابقة تصطدم بأهم خاصية من خصائص خطاب الضمان، والمتمثلة في أن التزام المصرف فيه التزام مجرد، حيث يلتزم بدفع مبلغ الخطاب بمجرد أول طلب من المستفيد، رغم إبداء أي اعتراض من طرف العميل، وهذا ما يناقض حقيقة الكفالة ، ويرى آخرون أن خطاب الضمان يمكن تكييفه على أساس أنه وكالة وهي “استنابة جائز التصرف مثله”لكن هذا التكييف، لا ينطبق على خطاب الضمان في كل الجوانب، فحتى وإن كانت الوكالة تصلح لتفسير العلاقة بين العميل والمصرف، إلا أنها لا تصلح لتفسير علاقة المصرف بالمستفيد، على أساس أن عقد الوكالة ينعقد بين الموكل والوكيل، حيث يصدر خطاب الضمان من المصرف بناء على عقد بينه وبين عميله، ويلتزم (المصرف) بصفته أصيلًا وليس نائبًا عن العميل. كما أن المصرف في خطاب الضمان يلتزم بدفع قيمة الخطاب للمستفيد بمجرد طلبه ذلك، وبالرغم من معارضة العميل على هذا الدفع، في حين أن الوكالة عقد غير لازم، حيث يمكن للموكل أن يمنع الوكيل من التصرف أو يرجع في وكالته في أي وقت، فأحكام الوكالة لا تنطبق تمامًا على خطاب الضمان المصرفي. وذهب البعض إلى أنه جعالة، لكن هذا التكييف لا يسلم من النقد، فإن خطاب الضمان عقد لازم لا يملك أحد المتعاقدين فسخه بإرادته المنفردة، أما الجعالة فهي عقد جائز من الطرفين ويحق لكل منهما فسخه. كما أن المقابل في خطاب الضمان معلوم، أما في الجعالة فإنه لا يشترط العلم بقيمة العمل ومقدار المدة ولا يستحق العامل العوض إلا بعد الانتهاء من العمل. وتوسط البعض إلى القول بأنه وكالة إذا كان خطاب الضمان مغطى تغطية كاملة من قبل العميل، وكفالة إذا كان غير مغطى ونوقش هذا التكييف بأنه يجعل من المصرف نائبًا عن العميل في الوفاء بقيمة خطاب الضمان من الغطاء المودع لديه في حالة خطاب الضمان المغطى، وهذا الأمر غير مطابق لما هو حاصل في التطبيق المصرفي فالغطاء الذي يقدمه العميل كما يكون غطاءً نقديًّا، يمكن أن يكون غطاءً عينيًّا، والمصرف في هذه الحالة يكون ضامنًا مرتهنًا وليس وكيلًا، والغطاء مجرد رهن لا يمكنه أن يسدد منه،.أن هناك من يعتبر خطاب الضمان بمثابة عقد جديد ومعاملة مستحدثة لها خصائص تميزها عن العقود المعروفة.
ومن خلال اختلاف الفقهاء في حكم استحداث عقود جديدة فإنّ خطاب الضمان حتى وإن كان يقترب من مفهوم الكفالة والوكالة، إلا أنه يبقى له كيان خاص به باعتباره معاملة مستحدثة ابتكرها العرف المصرفي والتجاري ووضع لها أحكاما خاصة، وما دام أغلب الفقهاء يرون الحرية في استحداث عقود تدعو الحاجة إلى إنشائها ما لم يرد بخصوصها نص يمنعها أو تخالف عقود الشريعة الإسلامية وأحكامها. فإنه يجب أن يكون خطاب الضمان خاليا من أية مخالفة شرعية . وإذا كان الفقه الإسلامي أجاز الكفالة والضمان لما فيهما من المحاسن فإن خطاب الضمان لا يخرج عن هذا المعنى، باعتبار أن العميل عندما يطلب من المصرف إصدار خطاب الضمان لصالح المستفيد سوف يتجنب إيداع مبلغ من النقود لدى هذا الأخير وليتمكن بموجبه من الدخول في المناقصة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المستفيد يجد في هذا الضمان الطمأنينة والأمان، فإذا أجيزت الكفالة شرعًا وهي أضعف في التوثيق، فإن جواز خطاب الضمان وهو أقوى في التوثيق أولى !
أما حكم أخذ الأجر على إصدار خطاب الضمان فيرى أغلب الفقهاء عدم جواز أخذ الأجر على إصدار خطابات الضمان، وأساس ذلك هو اعتباره كفالة، والكفالة من أهم خصائصها أنها من عقود التبرع التي لا يجوز أخذ الأجر عليها. وهناك من يرى أن خطاب الضمان يتضمن معنى الوكالة، والوكالة تجوز أن تكون بعوض أو بدون عوض، وبالتالي يجوز الحصول على مقابل لإصدار خطاب الضمان. وهناك من يجيز حصول المصرف على أجر مقابل خطاب الضمان وذلك على أساس حديث الخراج بالضمان ووجه الاستدلال، أن خطاب الضمان يتضمن مخاطر، فقد لا يتمكن العميل من تنفيذ التزاماته اتجاه المستفيد فيضطر المصرف إلى دفع قيمة خطاب الضمان عند مطالبة المستفيد، وبالتالي إذا كان مضمون الضمان المصرفي هو إلزام الضامن بالمغارم التي ترتبت على هذا الضمان، فمن باب أولى أن يكون له غنم من المضمون، فمن يضمن تبعات شيء يحق له أن يستربح منه . وأما المجمع الفقهي فيرى إمكانية الحصول على أجر يغطي المصاريف الإدارية الفعلية دون الزيادة على أجر المثل.
لكن وبالرغم من صدور هذا القرار، إلا أن الواقع العملي الذي تسير عليه أغلبية المصارف الإسلامية غير مطابق لما جاء فيه، حيث إنها تحصل على عمولة تفوق العمولة التي تحصل عليها المصارف التقليدية من حيث النسبة على أساس أنها لا تأخذ الفائدة عند تسييل قيمة خطاب الضمان. وتبرر هيآت الفتوى والرقابة الشرعية لهذه المصارف ذلك، على أساس أن الوكالة يجوز أن تكون بنسبة عند بعض الفقهاء مثل الأحناف، كما هو الحال بالنسبة للسمسرة، وأن الوكالة تكمن في الجانب الإداري لخطاب الضمان لا فرق بين ما إذا كان مغطى أم لا، غير أن هذه النسبة قد ترتفع كثيرًا بحيث لا يمكن أن تسمى أجر المثل .
ولعلنا نختم بالقول بأن الضمان عمومًا وسيلة قانونية وشرعية لها أهمية في باب المعاملات ولابد من تفعيل دور هيئات الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية لتطبيق قرارات المجامع على المستوى العملي ، كما لابد من تدخل المنظمين لصياغة تشريع خاص ينظم خطابات الضمان لاستبعاد تطبيق أحكام الكفالة، وتسهيل عمل القضاة على مستوى المحاكم في تكييف العمليات المصرفية ومعرفة النصوص واجبة التطبيق.
—————————
كلية الدراسات القضائية والأنظمة