ف-نار
هذا الكائن البشري الذي يدعى “إنسان”، قالوا إنّ اسمه مشتق من النسيان، وهذا مقبول فهو كثير النسيان، وإن تفاوت الناس في مقدرتهم على التذكر إلّا أنّ النسيان طبيعة متأصلة فيه، ومنذ أنْ عرف الإنسان طريق العلم والبحث والتقصي عن الحقائق، وهو لم يتوانَ في معرفة ماهية الذاكرة وكيف تتم عملية التذكر، وأين، وما يزال يحث خطاه كي يزيد من مقدرته على الحفظ لاستحضار المعلومة متى شاء.
ولست بصدد التأصيل اللغوي؛ فإني أتركها للمختصين في اللغة وفقهها،
ولكن عندما نتأمل في هذا المخلوق المتفرد في تفاصيل تكوينه نجد أنّ الأُنسَ والمؤانسةَ أصل في تركيبته النفسية، فهو كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه حتى وإنْ استغنى ماديًّا؛ فإنّ خوفه من العزلة يدفعه للعيش في جماعة كي يطرد الوحشة، ويحقق الأُنس بقربه منها.
والمتأمل في العلاقة بين الأُنس والإنسان يلاحظ أنّ كل ما يتعلق بالأُنس ودواعيه هي مطلب أساسي تسير عليه حياة هذا الكائن الذي كثيرًا ما يتغلب على همومه بالبحث عن مسببات الفرح، ونراه على النقيض من ذلك أمام النكد والحزن فهو يفرّ منه فرار الفرائس من الضواري، وأمّا ما يبديه بعض الناس من الوجوم الدائم، وانغماس قسم آخر في إثارة أجواء النكد للتنغيص على الآخرين فهذه مخالفة صريحة لطبيعة الإنسان السليم، وأظن أنّ هؤلاء لا يخلون من عقد أو حالات نفسية؛ لأنهم يجدون في إبداء الحزن والتنكيد على غيرهم وسيلة للتنفيس عن مشاعر مكبوتة لديهم، ولا أعني بهذا أنّ الإنسان السّوي هو من يقضي جل وقته في البحث عن المتع وتهيئة أسبابها دون النظر في مشروعيتها الأخلاقية، أو أن ينغمس فيها كليّة، لكني قصدت أنه يحمل بين جنباته نفسًا تواقة للمرح، وأن هذا أصل في تكوينها وما عداه من المشاعر السلبية طارئ عليها، ويتفاوت الناس في قابليتهم على امتصاصها أو مقاومتها وإزاحتها بالمرح؛ لكي يستعيدوا قدرتهم على التوازن النفسي من أجل التغلب على مشكلات الحياة ومصاعبها.
وفي اللغة أيضًا أن كلمة إنسان اشتقت من الفعل أَنِس بمعنى أبصر، ورأى قال تعالى في سورة طه على لسان موسى عليه السلام الآية العاشرة: (إِذْ رَأَى نَارَاً فَقَالَ لأَهلِهِ امْكُثوا إِنِّي آنَسْتُ نَارَاً لَعَلِّي آتِيْكُم مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدَىً).
ومنه (إنسان العين) قال الشاعر:
أشارت لإنسان بإنسان عينها لتقتل إنسانًا بإنسانِ كفّها
وهي الحدقة التي من أهم وظائفها تمرير الضوء المنعكس من الأشياء إلى الشبكية ليقوم الدماغ بتحليلها ثم يعيد تركيبها، ويترجمها إلى المعاني التي يفهمها، وعندئذ يندرج الاسم تحت المعنى نفسه، فهل رؤيته الجمال إلا أُنس ومبعث راحة وسرور له؟ أليس الجمال هو الأصل في كل ما خلقه الله في هذا الكون؟
كذلك عندما نتأمل كلمة “بَشَر”؟ وهي من أسماء الإنسان قال تعالى: (إِذ قال ربك للملائكة إنّي خالق بشراً من طين) آية 71من سورة البقرة، فهل لأنه سيكون مخلوقًا بتكوينين أحدهما مادي وهو الطين والآخر نفسي وهو البِشْر؟ أم لأنه سيكون مكسوًا بجلد تعلوه طبقة البَشَرة التي يستحيل عليه خلعها كما تفعل بعض المخلوقات كالأفاعي مثلًا أو النباتات، وربما بعض الجمادات؟ أم أنّ المعنى أصله من البِشْر الذي يعني الفرح والسرور؟ وحينئذ يلتقي الاسمان في معنى واحد.
وأخيرًا، هل سيكشف العلم في المستقبل عن مدلول جديد لكلمة إنسان تتعلق بجزء من تكوينه العقلي أو الجسدي يضفي على المعاني التي نعرفها معنى جديدًا؟ هذا ما أتوق إليه.