الكولوسيوم في روما، تحفة معمارية من عجائب الدنيا السبع (الجديدة)، في بداية نشأته كان موقعًا للاحتفالات والمهرجانات والغناء والموسيقى ثم تحول لاحقًا لأرض العروض الدموية والقتال والمصارعة بين البشر فيما بينهم والوحوش أيضًا؛ حيث كان هدف الأباطرة الرومان حينها من تلك المسابقات الدموية إشغال الناس عن المشاكل والأزمات الداخلية للإمبراطورية.
وأنقل “بتصرف” عن المفكر (نعوم تشومسكي) قوله بأن ليس كل ما ينشر في الإعلام حقيقة! الكثير من الحكومات تستخدم الإعلام و(تقنية الإلهاء) لتشكيل الرأي العام، وبفضلهما (بفضل الإعلام الإلهاء) تصبح القضية الثانوية مصيرية، والتافه يغدو قدوة ونجمًا، والأزمة الاقتصادية تصبح خفيفة، بل حتى الحرب تصبح ضرورة ويحصل الصدام بين الثقافات والحضارات بسبب الإعلام المسير من قبل الحكومات، ومختصر القول يمكن استخدامهما لصرف الرأي العام بعيدًا عن الأزمات الحقيقية!
منذ جائجة كورونا، يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حصارًا بسبب عدة أزمات داخلية على رأسها الأزمة الاقتصادية التي لم تشهد مثلها البلاد منذ فترة، وأكد وزير المالية الفرنسي أن اقتصاد بلاده سينكمش 11% هذا العام بسبب الجائحة، ويتوقع بنك فرنسا انخفاضًا قياسيًّا يبلغ حوالي 10% للناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 وأن يتجاوز معدل البطالة 10% في نهاية العام! هذا الوضع القاتم للاقتصاد الفرنسي أظهر ضعف إدارة ماكرون للأزمة، وانعكس ذلك عليه سياسيًّا؛ حيث استمرت شعبيته بالانخفاض.
وفي خضم بحثه عن حلول للأزمة الاقتصادية، انفجرت أزمة غضب في وجه الرئيس الفرنسي، من متظاهرين حانقين على الشرطة، متهمين أفرادها بالعنصرية وممارسة العنف، مطالبين ماكرون بالتعامل مع مخاوفهم وحمايتهم من أجهزة الشرطة، وزادت موجة المظاهرات – بعد مقتل جورج لويد الأمريكي من أصول أفريقية – الذي تسببت وفاته في خروج مظاهرات في فرنسا تطالب بإعادة التحقيقات في قضية وفاة الشاب الفرنسي الأسود (تراوري – 2016) على يد الشرطة بعد اعتقاله، وذكرت صحيفة “لوموند” الفرنسيّة أنّ “تحسين أداء الشرطة بات أولوية بالنسبة لماكرون”؛ حيث طلب من وزير الداخليّة الإسراع في تقديم اقتراحات لذلك.
ووسط هذه الأجواء المشحونة، ظهرت للرئيس أيضًا أزمة جديدة حيث بات عليه أن يواجه غضب الشرطة التي خرج أعضاؤها في مظاهرات بعدما صدرت لهم تعليمات تزيد من القيود عليهم في حالات ضبط المشتبه بهم، مما اعتبره رجال الشرطة ثقلًا إضافيًّا على مهامهم، واعتبروا أنه قد “تم بيعهم” من قبل وزير الداخلية وأن الحكومة قد رضخت لاحتجاجات المتظاهرين.
هذه الأزمات المتتابعة دفعت زعيم اليمين في مجلس الشيوخ الفرنسي للقول بأن “الأجواء ليست جيدة في هذا البلد”، وبدأ المحللون في طرح العديد من الأسئلة ومنها: هل ينجح ماكرون في معالجة هذه الأزمات؟ وتوقع بعضهم استقالة ماكرون هربًا من الأزمة والدعوة لانتخابات مبكرة (نفت الرئاسة هذا لاحقًا)، وكتبت صحيفة “لوموند” في أحد تقاريرها أن ماكرون يدرك جيدًا أن “مستقبله السياسي مرهون بقدرته على إعادة الفرنسيين إلى الحياة الطبيعية”.
مع دخول الموجة الثانية لفيروس كورونا في أوروبا، وانتشار خبر إغلاق الحياة العامة في فرنسا، ظهرت إضرابات واعتراضات على عمليات الإغلاق للحياة العادية والمطاعم والمتاجر مما ينذر بمزيد من الخسائر الاقتصادية! فهل كان ماكرون وحكومته بحاجة لمزيد من الأزمات؟ وكيف له أن يسيطر على الشعب الغاضب من تقييد حريته والمحافظة على أمن البلاد؟ لم يجد ماكرون مخرجًا من أزماته (الداخلية) المتلاحقة إلا بالهروب عبر الكولوسيوم!
خلال الفترة الأخيرة، لم تكن هناك ملامح أزمة بين الحكومة الفرنسية والمسلمين داخل فرنسا وخارجها، لذا فوجئ العالم خلال أحد المؤتمرات الصحفية بتصريح غريب من ماكرون عن الإسلام وأنه (دين يمر بأزمة)! وفجأة بعد أسابيع من ذلك التصريح، تقع حادثة ذبح المدرس الفرنسي، الحادثة الإرهابية التي (لا تقرها شريعة أو إنسان ذو ضمير سوي).
استغل ماكرون الموقف ووصف الحادثة بالعملية الإرهابية، (وألصقها بالدين الإسلامي)!، وقدم أنواع الدعم للمدرس المذبوح الذي عرض على طلابه الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لم يوجه ماكرون انتقادًا أو عتابًا للمدرس الذي أساء استخدام حرية التعبير مما تسبب في غضب معظم الشعوب الإسلامية، وأثارتها لغة التعالي والازدراء التي تعامل بها ماكرون مع المسلمين مختفيًّا حول حرية التعبير والرأي كما يختفي الأمريكيون خلف بريق الديمقراطية وحقوق الإنسان!
بغض النظر عن حب ماكرون أو كرهه للإسلام ونبيه ومعتنقيه، يعرف المتابعون لهذه القضايا أن ماكرون له هدف من إثارة هذه الأزمة، فأسلوب اللجوء إلى ملف المتطرفين والتخويف من عمليات (دموية)، والتحذير من الخروج إلا للضرورة، لا يختلف عن أسلوب (مهرجانات الدم) التي كانت تقام في الكولوسيوم قبل عدة قرون، وهو ما سوف يجعل الكثير من الفرنسيين (والأوروبيين) يرضخون لأمر تعطيل الحياة العامة ويعيدون النظر في ترتيب قضاياهم أمام موجة الإرهاب التي يحذرهم منها ماكرون (وغيره من زعماء أوروبا)!
أراد ماكرون أن يجد حلًا (لأزماته الداخلية) فوجد نفسه أمام (أزمات خارجية) تفتح ملفات الماضي، وتنبش في التاريخ الفرنسي الاستعماري الأسود وتبعث (الكراهية) بين الشعوب، وتضع حكومة فرنسا أمام الشعوب الإسلامية التي تبنت مبدأ مقاطعة المنتجات الفرنسية في بلاد المسلمين، وهذه الحملة إن استمرت سوف تزيد من آلام الاقتصاد الفرنسي المترنح أساسًا.
ختام:
في الوقت الذي ظهرت فيه تصريحات رسمية من سياسيين ومفكرين غربيين تنتقد ماكرون واستغلاله حرية التعبير للإساءة والتعدي على حريات الآخرين، كان بعض الإعلاميين العرب يدافعون عن (نية) ماكرون، ويصفون الغاضبين من تأييده للرسوم المسيئة وتعاليه على المسلمين بأنهم أتباع لأردوغان، ويأتمرون بأمر تنظيم الإخوان.