المقالات

مذكرات قلب مثقوب

(بنات القصر 1)

تغفو المدينة على أضواء خافتة، وزقزقات عصافير الغروب السمراء التي تتنقل بين دروب الأحياء الصغيرة، والأزقة المظلمة؛ حتى تستيقظ على ضفاف القصر معلنة عن يوم جمعة جديد.
يقع قصر سعيد بن العاص في شاطئ وادي العقيق الذي
لا تزال أطلاله قائمة إلى الآن شاهدة على أحداث التاريخ، وقصص الحب العذري في سفح العقيق الذي قال فيه الشاعر:

القصر فالنخل فالجماء بينهما * أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
ذلك القصر الذي  يقفُ هناك كشاهدٍ في حضرة التاريخ، لكنّه يعترف عن نفسه أن له براعةً في الاختلاس، يختلس النظر، يختلس السمع، يختلس الصور، يُخبئ في جعبةٍ مخفيةٍ حكايات أهل المدينة والعقيق،
وفي أحضان ذلك القصر صبيحة  ليلة القدر السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1387هجرية الموافق 21ديسمبر عام 1967م،
كان هناك مولود جديد صغير ووسيم، لكنه نحيل، وكانت عادة أهل المدينة تسمية الولد والبنت باسم (زين) مما حدا بوالدي الى التسمية ب (زين العابدين)، مرت أيام وشهور، وعزم أبي على  الرحلة إلى الجنوب؛ حيث مقر الأجداد وهي الزيارة الدورية لمنطقة الباحة، وبالتحديد مدينة بلجرشي، وبالضبط في قرية الزارع.
ومن وادي العقيق القاحل إلا من شجر طرفاء المدينة ونخيلها الشاحب  إلى الوادي الأخضر الذي تقع عليه القرية الصغيرة، ومن حرارة الصيف إلى برد القرى والأرياف من زحمة المدينة إلى هدوء القرية، كان الطفل محمولًا طول الطريق في سيارة كبيرة لاتعرف للراحة سبيلًا سيما بعد شقة الطريق من جبال المدينة إلى جبال الطائف، وحتى هضاب القرى والأرياف لقد كانت إشارات القدر في حياة الطفل _تلك التي تحدث عنها باولو كويلو في روايته الشهيرة (الخيميائي) تشير لطول المعاناة وقسوة الحياة.
إن إشارات القدر ترسل للطفل رسالة واضحة بمعاناة طويلة مع الحياة، وأنها كالجبال في صعوبتها وكالقرى والأرياف في وعورتها بين الجمال والصعوبة والجفاف، وحرارة الأيام  بين جمال الأشجار والأزهار في القرية وجفاف الصيف في المدينة، كان الطفل يترنح كريشة في مهب ريح أو ورقة متدلية من غصن شجرة تكاد ان تسقط
وفعلا كانت أول رسالة للدلالة على عمق البلاء سقوط الطفل من العليَّة (وهي الغرفة في الطبقة الثانية من الدار)؛
ونتيجة  لغفلة العائلة  كان الطفل يحبو، وهو ينظر إلى أخته الكبرى أسفل الدار التي كانت مشغولة عنه بين أغصان التين تنتقي منه الأطايب، وحانت منها التفاتة خاطفة إلى الطفل الذي تدلى من العلية إلى صخرة تقع بين أحجار القرية تحت المنزل الشعبي المتهالك.
وفي غمضة عين كان الطفل في حضن أمه محاطًا برجالات القرية ونسائها الصراخ يملأ البيت الحزن، يعم القرية الليل يزداد ظلمة على أم حزينة وأب صابر على القضاء الكل، كان ينتظر موت الصبي الذي امتلأ وجهه بالدماء وأنفه يسيل دمًا بلا توقف، ومما زاد معاناة الأبوين أنه لايوجد مستشفى، ولا طبيب في تلك القرى والأرياف.
الأعشاب والإسعافات الأولية وبعض خلطات عجائز القرية كانت تفي بالغرض.
لطف الله وعنايته رحمة ربانية  وقدر بطول العمر.
لا تنسَ أمي أن رجلًا من القرية  يقسم، وبكل قسوة أن الطفل مصيره الموت مرت الأيام، ورأى الطفل ذلك الرجل يموت قبله.
تزحف الأيام ويكبر الطفل في وادي العقيق بالقصر الذي صار فيما بعد واحة غنّاء من الأشجار والأزهار لقصر أمير كبير،  كان أبي موظفًا بسيطًا عند الأمير الصالح عبد المحسن _ رحمه الله _  يتقاضى راتبًا متواضعًا، ويسكن في غرفتين ببدورم  إحدى أجنحة قصر الأمير.
كان أمير المدينة المتواضع  لا يفوت صلاة في جماعة وكثيرًا ما كان يصلي بالمسجد النبوي وأحيانًا في مسجد القصر، ومن تواضعه كان بعد الصلاة يمازح  أقل  موظفي القصر من عمال بسطاء.
في البدروم كانت هناك عدة عائلات يغلب عليها القرابة فكلهم من غامد من قرى متعددة.
لم يكن هناك حساسية بين الشباب والبنات فكانوا كإخوة وأخوات كعادة أهل الجنوب فيما مضى فالفتاة محتشمة، لكنها لا تلبس نقابًا ولا غطاء للوجه تتكلم مع الشاب بكل ادب واحترام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى