بين أهل المنطق والبلاغة؛ أن المغالطة: قياس فاسد، وصناعة علمية لا تفيد استنتاج اليقين في المحاججة، وقد يسلّم لها الخصم وقد لا يسلّم. فالمغالطة هي ادّعاء غير صحيح قد يكون مبنيًّا على أسس وأدلة غير سليمة مما يقود إلى نتائج خاطئة، أو قد يستند إلى أدلة صحيحة، ولكنه ينطلق منها إلى استنتاجات مغلوطة.
والمغالطة التاريخية التي نحن بصددها ساذجة أيضًا؛ فقد بثها سُذجٌ من ذوي الأجندات المشبوهة المكشوفة؛ لأنها تتصادم مع النص القرآني الكريم، والنص النبوي الشريف، والخبر التاريخي المتواتر، والمكتشف الآثاري، والواقع الجغرافي لجزيرة العرب (مهد العروبة والإسلام)، وبلاد فلسطين (الأرض المباركة)، بل والجهل بمصطلحات الاتجاهات الجغرافية والمكانية؛ السائدة في الجزيرة العربية، ولدى علماء الجغرافيا والبلدانيات.
فقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها منذ شهور أو أكثر –بحسب اطلاعي-مقالات وتغريدات وكتابات، وتعليقات صوتية مرئية؛ عن دعوى اكتشافهم العبقري النادر؛ بأن المسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى مسرى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليس في موطنه القدس من أرض فلسطين المباركة، بل يقع في قرية (جِعرانة) شمال شرقي مكة المكرمة. مُستندين إلى نص للواقدي في مغازيه..!!
• نص الواقدي:(١)
“وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا; فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ, فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ”(١).
• تحليل هذه المغالطة التاريخية:
1- قال الله تعالى: }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {(٢)؛ فحادثة الإسراء والمعراج الواردة في هذه الآية الكريمة، أُرِخَ لها بأنها قبل الهجرة بسنة، فتكون في ربيع الأول، ولم تعين الليلة، وقيل في ليلة السابع والعشرين من رجب قبل الهجرة بسنة، وقيل قبل الهجرة بستة عشر شهرًا، فتكون في ذي القعدة، وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بخمس، وقيل: بست. والذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة وقبل الهجرة. وعن جابرَ بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما كذبني قريش، قُمْتُ في الحجر فجـلا اللهُ لي بيت المقْدِسِ، فطفقت أُخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) (٣).
2- الذي فرح بنص الواقدي، فليعلم أنه لم يتفرد به، بل أورده أيضًا المؤرخ المكي الكبير الإمام الأزرقي، وكليهما من أبناء النصف الأول من القرن الثالث الهجري. فماذا يقصدان رحمهما الله؟
3- النص يتحدث عن منطقة توزيع الغنائم (الجِعرانة) وإحرام الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بالعمرة منها؛ عقب الانتصار في غزوة حُنين، وحصار الطائف، التي وقعت في الثالث عشر من شهر شوال في السّنة الثامنة للهجرة.
4- فأين هي الجِعرانة؟
جِعْرَانة: بكسر أوله وسكون ثانيه وتخفيف الراء، كذا اتفق اللغويون على ضبطها. وأهل مكة اليوم ينطقونها بضم الجيم، وهي ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لما قسم غنائم هوازن مرجعه من غزاة حنين وأحرم منها، صلى الله عليه وآله وسلم، وله فيها مسجد، وبها بئار متقاربة، وتقع في صدر وادي سرف، شمال شرقي مكة على قرابة “24” كم (٤).
5- نناقش الآن عبارة الواقدي (فَأَحْرَمَ من المسجد الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى)
القُصْوَى: مؤنث الأقْصَى، ويقال: فلانٌ في الناحية القُصْوَى: البعيدة. والقُصْوَى طَرَفُ الوادي.
والقُصْوَى الغايةُ البعيدةُ (٥).
وفي الآية الكريمة التي نزلت في غزوة بدر:﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. الأنفال (42). يفسرها البغوي (٦) بقوله:﴿إِذْ أَنْتُمْ﴾، أَيْ: إِذْ أَنْتُمْ نُزُولٌ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ،﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا﴾، بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالدُّنْيَا: تَأْنِيثُ الْأَدْنَى،﴿وَهُمْ﴾، يَعْنِي عَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،﴿بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى﴾، بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَقْصَى مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْقُصْوَى تَأْنِيثُ الْأَقْصَى.
6- المقصود هو الاتجاه الجغرافي والمكاني لمسجدي الجِعرانة:
فقد كان بالجِعرانة مسجدان، أحدهما بالعدوة القصوى من الوادي بُني في موضع مصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحرم منه، والآخر بالعدوة الدنيا من الوادي، بناه رجل من قريش، وكلا المسجدين بُنيا قبل القرن الثالث الهجري (٧).
وأما المسجد الحالي، وهو المسجد الذي يعتمر منه الناس اليوم فيقع بالعدوة الدنيا عند تقاطع طريقين مسفلتين في بداية الجعرانة على بعد 25كم من المسجد الحرام شمالًا شرقيًّا (٨).
7- الاتجاهات الجغرافية: الفهم والإحاطة بالاتجاهات الجغرافية والمكانية للمسميات والمواقع والأحداث؛ فلم يستطع التمييز بين الواقع الجغرافي للمسجد الأقصى في القدس بفلسطين المباركة، وبين الاتجاهات الجغرافية والمكانية؛ السائدة في الجزيرة العربية، ولدى علماء الجغرافيا والبلدانيات. الواردة في القرآن والسنة، (كالعدوة، القصوى، الدنيا، الأقصى، الأدنى)، وغيرها مما ورد لمجمل أحداث السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. فتطبيق المفهوم الصحيح للمصطلحات ذات المدلولات الجغرافية والمصطلحات المكانية؛ يحقق بناء تصور للسياق الجغرافي والمكاني، وبالتالي تحديد مواضع الأشخاص والمواقع (٩).
8- ختام القول: من ذلك يتضح لنا بجلاء كبير أن مثير هذه المغالطة التاريخية، هو جاهل بأبجديات البحث التاريخي، والمنطق العلمي؛ فالتشكيك في موقع المسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى، ومسرى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من القدس في أرضه فلسطين المباركة، كالذي يشكك في موقع المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة!
——————————
(۱) الواقدي: محمد بن عمر (ت۲۰۷ ه): المغازي، تحقيق: الدكتور مارسدن جونس، عالم الكتب، الطبعة
الثالثة، 1404 ه/ ۱۹۸4م، ج۳، ص۹۰۸-۹۵۹.
(٢) سورة الإسراء، آية رقم (۱).
(۳) صحيح البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء، حديث رقم (۳۸۸۹) ، ابن حجر: فتح الباري،
ج۷، ص ۲۹۲؛ مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حديث رقم (۱۹۲)،
النووي: المنهاج ، ج ۲، ص ۱۸۲.
(4) ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، الطبعة التاسعة 1436ه/۲۰۱۰م، ج۲، ص۱۸۲؛ البلادي:
عاتق: معالم مكة التاريخية، دار مكة، الطبعة الثانية، 1403 ها ۱۹۸۳م، ص 64.
(5) المعجم الوسيط مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة، ۱۲۰ ها؛ ۲۰۰م، ص 741.
(0) معالم التنزيل: دار طيبة الرياض، الطبعة الأولى، 1409ه/۱۹۸۹م، ج۳، ص ۳۶۲.
(7) الأزرقي: أبي الوليد محمد بن عبدالله (ت. ۲۵ ه): أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، الطبعة الأولى
1434 ه ۲۰۰۳م، ج۲، ص۸۲۔
(8) الحارثي: ناصر بن علي: الآثار الإسلامية في مكة المكرمة، الطبعة الأولى، الرياض، ۱۹۳۰ ها ۲۰۰۹م، ص ۲۳۱.
(9) القاضي: عبدالله حسين: مفهوم الاتجاهات الجغرافية في القرآن الكريم، مجلة جامعة الملك عبدالعزيز،
علوم تصاميم البيئة،م ۷ ص ص ۰۱، ۱۰۲، (۲۰۱۳م / 1434 ه).
————————-
باحث في التاريخ والحضارة
مكة المكرمة
بحث احلى الموضوع و أزال الاشكال ؛ بوركت أيها الباحث المدقق .
شكرا أخي أحمد الشرقي
السلام عليكم د.محمد
تحية وتقدير لشخصك الكريم على غيرتك على دينك وتاريخك وأرضك فما قمت به من بحث مهما بدا للرائي أنه بسيط إلا أنه كبير في معناه وأثره وما تداولته بعض وسائل التواصل الاجتماعي ليثير الحزن في قلوبنا على هذه الأمة التي انتكس حالها فأصبحت لا تعرف رأسها من قدميها ولولا فيها رجال مخلصون وغيورون لضاعت حقائق كثيرة هي من صلب وجودها.
بوركت وبورك مسعاك وزادك ايمانا وتثبيتاً.
شكرا أختنا أسماء الهاشم، الهدف تفنيد هذه المغالطة، وهذا القياس الفاسد على نص الواقدي، وتوضيح الصحيح للقارئ.
والله الموفق
الحمدلله الذي انعم الله علينا بالاسلام وأنعم الله علينا برجال درسو سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم وحفضوها وعلومها للبشر حتي لا يمكن هناك لبس في الحقائق وشكرا لأخينا على غيرته على دينه