أكدت قمة مجموعة العشرين 2020 الدور القيادي والمحوري للمملكة العربية السعودية في الاقتصاد العالمي من خلال هذه المجموعة التي تُمثل نموذجًا حديثًا للتعاون والتنسيق الدولي بدلًا من مجموعة السبع، والتي تُمثل سبع دول صناعية فقط. ومجموعة العشرين تُشكل 85% من الاقتصاد العالمي، وهذا يفوق النسبة لمجموعة السبع التي يُشكل حجم اقتصاداتها 40% فقط من الاقتصاد العالمي. كما قدمت المملكة من خلال هذه القمة منهجًا متوازنًا يتناغم مع توجهها منذ بداية الأزمة في اعتبار جائحة كوفيد 19 أزمة صحية أولًا واقتصادية ثانيًّا. إن القمة تمكنت من التعامل مع الجائحة باعتبارها أزمة عابرة للحدود، وجعلت تحقيق السلع (المنافع) العامة عنصرًا مهمًا من الأهداف المستقبلية للعالم الذي هو بمثابة قرية واحدة. ومع أن الجائحة ألقت بظلالها على قمة العشرين إلا أنها تطرقت للنواحي المهمة من التنمية المستدامة، والتي تشمل ضرورة إتاحة الفرص للجميع؛ وخصوصًا للنساء والشباب، وتعزيز دورهم في سوق العمل مع شمولهم ماليًّا من خلال الاستفادة من إمكانات الاقتصاد الرقمي.
لقد ركزت القمة على ثلاثة محاور رئيسة هي: تمكين الإنسان، والحفاظ على كوكب الأرض، وتشكيل آفاق جديدة، والتي تشمل الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية. لقد أعطت الطريقة السريعة التي واجهت فيه المملكة الوباء عند تفشيه أنموذجًا مميزًا؛ حيث قدمت الجوانب الاحترازية على غيرها كما وفرت مساعدات عاجلة للقطاع الصحي وسيولة للبنوك وضمانات للقطاع الخاص وبالذات للمنشآت الصغيرة. كما أكملت ذلك بالدعوة لقمة استثنائية في مارس 2020 لمواجهة الجائحة والتخفيف من أثارها الصحية والاقتصادية، والتي تعهدت المجموعة فيها بضخ 5 ترليون دولار لمواجهة الجائحة دُعيت فيها منظمة الصحة العالمية ومنظمات أخرى للقمة، وسيذكر التاريخ أن هذه الإجراءات الاستباقية كانت عاملًا حاسمًا في نجاح قمة العشرين في التعامل مع الجائحة مما يعني أن عام 2020 شهد قمتين سعوديتين، وليس قمة واحدة، ولقد تبنت القمة عددًا من المبادرات التي قدمتها المملكة، ويُتوقع أن يكون لها انعكاسات اقتصادية سيمتد أثرها للقمة القادمة في إيطاليا 2021، وأيضًا للسنوات التي تليها مما سيكون له خمس نتائج إيجابية:
أولًا: هذه القمة تعتبر بحد ذاتها؛ إضافة مهمة للاستثمار في رأس المال البشري الوطني؛ حيث تمكنت كوادر سعودية من الشباب والشابات بجدارة وبوقت قصير من تنظيم قمة دولية افتراضية وبنجاح باستخدام بنية أساسية ذات كفاءة؛ وذلك طوال ثمانية أشهر تخللتها مئات الاجتماعات واللقاءات. هذه الكوادر إذا تم الاستفادة منها سوف تقدم المزيد للوطن ولاقتصاده مستقبلًا، فهي بذرة لمبادرات شبابية ومشاريع استثمارية مثل: شركات الإعلان، والتسويق، وتنظيم الفعاليات، والمؤتمرات المختلفة، وكما يقال فالأزمات تخلق الفرص.
ثانيًّا: تبنّي مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، وهو أمر سيحقق عوائد اقتصادية وبيئية للجميع. فبالرغم من الهجوم المستمر على مصادر الطاقة الأحفورية والتحيز الضريبي ضد النفط إلا أن المملكة أخذت بزمام المبادرة، وقدمت للمجموعة مبادرة الاقتصاد الدائري الكربوني، وهذه المبادرة تُمثل خيارًا نظيفًا للاستفادة من انبعاثات الكربون، وتصنيعها بما يزيد القيمة المضافة للنفط، ويعتبر استثمارًا في طاقة نظيفة وبتكلفة منخفضة نسبيًّا.
ثالثًا: يمثل إصلاح منظمة التجارة العالمية ضرورة ملحة خاصة مع تزايد السياسات الجمركية الحمائية في الأعوام السابقة لما له من أثر سلبي على التجارة العالمية، وسيكون مضرًا بالدول النامية التي تهمها قضايا إصلاح سياسات التجارة الزراعية والدعم. لذا ازدادت المطالبة بإصلاح آلية التجارة الدولية والدعوة لإصلاح المنظمة وإعادة هيكلتها خاصة فيما يتعلق بتعديل آلية التحكيم وتسوية المنازعات التجارية. ومن المتوقع أن تلقى المبادرة قبولًا أكبر مع قدوم إدارة ديموقراطية للبيت الأبيض في أمريكا؛ حيث يستهدف الإصلاح زيادة المرونة والشفافية في تطبيق قواعد المنظمة، وضرورة التأقلم مع مستقبل التجارة الإلكترونية.
رابعًا: ستكون تقنيات الخدمات المالية مستفيدة من توصيات القمة التي أكدت على التوسع في الشمولية المالية لخدمة فئات مختلفة في المجتمع مثل: النساء، والشباب، والمناطق الريفية؛ خاصة في الدول النامية. فمثلًا هناك أقل من 40% فقط من النساء في هذه الدول لديهم حسابات بنكية ولذا فخدمات التقنية المالية (الفنتك) وغيرها ستلقى قبولًا عامًا لإغلاق هذه الفجوة. وهذه المبادرات ستجعل الهيئات الرقابية في بعض الدول أكثر تقبلًا لانتشار شركات الفنتك، كما أن هذا التطورات ستدعم التحول للاقتصاد الرقمي، وتفعيل تقنيات البلوك تشين والذكاء الصناعي. وهذا يعني اتجاه الهيئات التشريعية لاستيعاب أكبر للمدفوعات الرقمية وبنوك المستقبل وزيادة التداخل بين أنظمة الاتصالات والمدفوعات، وأيضًا توجه المنصات الإعلامية مثل: فيسبوك هي الأخرى لإصدار عملات رقمية.
خامسًا: نشر روح العمل الجماعي في عالم مترابط من خلال إبراز الفوائد الاقتصادية للجميع فهذه الأزمة لم تنتهِ بعد، وهناك ضرورة للاستعداد وبشكل أفضل لأي أزمات مستقبلية. لذا فمبادرة اللقاح المجاني (أو منخفض التكلفة) تستوجب النظر لتقديم اللقاح والعلاج كمنفعة عامة دولية تعطي أملًا للشعوب.
وأخيرًا، إن تقبّل العالم لنهج العمل الجماعي يفترض به أن يكون أكثر تقديرًا لدورالمملكة في استقرار الاقتصاد العالمي ومتفهمًا لموقفها في أسواق النفط من خلال قيادتها لأوبك وتنسيقها مع منتجين خارج أوبك؛ ولذا، من المأمول أن التنسيق أيضًا مع الدول المستهلكة سيحد من اتهام المنظمة بالاحتكار ونعتها بالكارتيل مما يعني تراجع احتمال استخدام قوانين الاحتكار ضدها.
——————
أمين مجلس إدارة جمعية الاقتصاد السعودية