“محاولة تشخيصية لواقع التعليم عن بُعد وفق رؤية فلسفية تأملية”
تعليمنا إلى أين.. عنوان كتاب شيّق ماتع للطبيب الأديب “زهير السباعي” يقول في بعض ثناياه: بأنه ذات يومٍ وجد زوجته تراجع لابنتهم ما استظهرته من كتاب العلوم فحاول التدخل للتذكير بأن المهم هو الفهم والتأمل والتساؤل والحوار، وليس الاستظهار، فردت عليه زوجته بأن “دع البنت تنجح أولًا…. ثم بعد ذلك تفكر”.
هذا مقطع من حديثه يستدلُ به على أن أسلوب التعليم في مدارسنا مازال حتى وقتنا الحاضر يمارس بطريقة الإلقاء، والتلقين، والمطلوب من المتعلم الحفظ والاستظهار فيساق للاختبار للاسترجاع والتقيؤ وأخيرًا “النسيان”، ويشمل هذا القول التعليم الجامعي.
ويطالب في فكرة كتابه بحاجة المجتمع الآنية والمستقبلية إلى تعليم متغير متناغم مع متطلبات العصر الذي نعيش، وختم بأن “مركزية الإدارة” تعوق أي تقدم حقيقي.
وتعد العملية التعليمية من عمليات التواصل بين فردين أو أكثر، أو من الفرد نفسه ومن الممكن أن يكون التواصل بين المعلم والمتعلم شفهيًّا أو غير ذلك، ولهذا تُعد الكتابة عن التعليم شقاء يحل بالعقل، وذلك لتشعب المسارات، وتنوع الاتجاهات، وتعدد المدارس، ومركزية الإدارة.
ومع اقتراب الفصل الدراسي الأول لهذا العام من نهايته يحق لنا أن نتأمل واقع التعليم عن بُعد، كما هو حاله لا كما نريد نحن في أذهاننا، ولكل طالب علم في يومنا الحاضر أن يتساءل:
هل يتحقق التعليم عن بُعد عبر منصة “مدرستي”؟!
أم هي مرحلة فرضتها الجائحة “كورونا” وستزول بزوال المسبب لحدوثها؟!
الذي دفعني لتدوين هذه الأفكار وبثها هو حجم التساؤل الواحد والاختلاف المتباين في الآراء، ولبّه يدور حول وجود تعليم حقيقي نعيشه في تعليمنا الذي يمر بمرحلة انتقالية”متحولة” تتطلب تغيير قناعات فكرية وتشكيل اتجاهات ذهنية تتوافق مع الممارسات السلوكية، فالمعرفة تبدأ بالوعي، والوعي لا يستورد كما يقول زهير كتبي، ولكي لا تخدعنا حواسنا ومداركنا ونحن في مرحلة البحث فنكون عن الحقيقة أنصاف أيقاظ: أنصاف حالمين، ولنستلهم تحديد مسارنا “الطريق” كما قال ابن الرومي في بيت قصيده:
أمامك فأنظر أي نهجيك تنهج… طريقان شتّى: مستقيم وأعوج
ويقول المفكر المسيري: إن حياة المرء رحلة استكشافية مستمرة، وعليه أن يبقي عقله منفتحًا على العالم وعلى تجاربه يحاول فهمها ثم يتحرك، فكما أن المعرفة قابلة للزيادة فالجهل كذلك قابل للزيادة بلا حدود بحسب قول الصادق النيهوم، والجهل إن ساق الإنسان يولد الثقة على نحو أكثر مما تفعل المعرفة كما قال داروين.
فلا بد أن نبحث عن المعرفة فهي لا تبحث عن أحد, وجهد طالب العلم لا يُقاس بمدى ما قطع من أشواط، إنما يُقاس بسلامة الاتجاه، والمقياس الذي نقيس به ثقافة أي شخص هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فاختلاف الرأي كمنطلق من حق كل إنسان أن يرى بأنه على حق لكن ليس من حقه أن يقرن ذلك بتخطئة الآخرين، فالحوار فرصة لاختبار الرأي، ولابد من تجنب الأحكام المسبقة فلون السكر كالملح لكن المذاق مختلف جدًّا بالتجربة فالتجربة هي المعنية بالبناء السليم فنحن نستطيع إن أردنا فالإنسان حصيلة ما تمليه عليه نفسه، والراحة الكبرى لا تنال إلا على جسر من التعبِ كما في بيت قصيد أبو تمام شاعر الحماسة.
فالعقل لا يتعلم إلا بالعبرة وبه تصلح الضمائر، والإنسان العاقل يقبل قسوة الناصح، ولا يكون كالذي كسر ساعة منبه لم يكن لها ذنب إلا أنها.. أيقظته!
فكيف يختار الشباب طريقه بين ماضٍ لا نريده ومستقبل لا نعرفه.. هنا يكون السؤال سهلًا أما إجابته فصعبة، كما يقول النبيه مرزوق بن تنباك، فترى البعض ينطبق عليه قول شيخ المعرة:
كل تسير به الحياة وماله ……عِلم على أي المنازل يقدم
ومن التناقضات الجميلة في الإنسان أن قدرته على الاعتراف بضعفه يتطلب الكثير من القوة، فعلل الأفهام أشد من علل الأجسام كما يقول أرسطو فهل نبادر بحلحلة العلل التي قال بها هذا الفيلسوف؛ لنمتلك القدرة على مواكبة المتغيرات الحاصلة من حولنا في عالمنا الصغير، فالمستقبل يبدأ تكوينه من خلال أفكارنا القابلة للتحقق، وهذا ناموس لا يُبدل.
وإذا ما نظرنا إلى التربية من زاوية الأصول فإن الأصل الاقتصادي، وهو الأبرز في عالم اليوم يرى: “إن التربية مهنة أهدافها تصُاغ بالتنظير ووسائلها تنفذ بالتطبيق”، فالإنسان يملك فرصه لاكتشاف ذاته وتفكيك عالمه الداخلي فيجب أن لا يتوقف عمال المعرفة عن استمطار الأفكار المعالجة للممارسات غير الناضجة التي تتم من خلال منصة التعليم أما ما كان ناضجًا نافعًا فيتم البناء عليه واستمرار العمل به فحاجتنا ماسه الآن للمبادرات المؤسسة للانطلاق، وليس للإملاءات المقيدة له فواقعنا التعليمي الآن يتطلب توليد الأفكار وتمحيصها والعمل بها لتجذير نواة تعلم هادفة محققة لغايات التعليم المنشودة لبناء غد مشرق لفلذات الأكباد الذين خلقوا الزمان غير زماننا، كما أخبر بذلك رسول الهدى المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وللحق فجهود وزارة التعليم تذكر فتشكر فمع نهاية الفصل الحالي نشعر بمقدار التحسن في إرساء بنية تقنية إلكترونية للتواصل عبر منصة “مدرستي” فما كان واقعًا في الأسابيع الثلاثة الأولى من التجربة ليس واقعًا في الأسابيع الأخيرة منها، والمأخذ الأبرز للمتأمل عن قرب معالجة هو ضعف شبكة الاتصالات بل انعدامها في بعض الأماكن والقرى، وهذا خارج نطاق عمل الوزارة التي بادرت مؤخرًا بتشكيل لجنة استشارية دولية للتعليم الإلكتروني بهدف استثمار الخبرات، وكذلك أحسنت بالعمل على إعداد مناهج دراسية في التفكير النقدي والفلسفة.
الفلسفة التي كان مجتمعنا نافرًا منها هاهو يستقبلها بحفاوة علها تكون أحد أسباب العلاج لواقعنا التعليمي وتشخيص ماله وما عليه، ومن ثم الارتقاء به نحو الأفضل وفق منهجية علمية يرجى نجاعتها كنتيجة ختامية تسعد كل منتمي لأشرف وأنبل المهن كرسالة حضارية نرتقي بها نحو المعالي مستمدين نواتها من تعاليم الإسلام الخالدة فليتنا نجعل من المحنة “منحة” نعيد بها ترتيب أولوياتنا، “الأهم فالمهم” وفق متطلبات المرحلة وبما تقتضيه التجربة الجديدة، فلنجرب غربلة الأفكار وتنظيمها لأهم عناصر العملية التعليمية. “المدرسة، المعلم، المتعلم”، لإيجاد بيئة حاضنة فاعلة محفزة عبر توليد الأفكار ومن خلال تشريح العمليات العقلية المعرفية المسؤولة من وجهة نظري عن وجود فجوة ذهنية تسببت في وجود جفوة نفسية لدى بعض شرائح المجتمع تجاه التعليم عن بُعد، فأهم متطلب الآن وفق المعطيات المبنية على تلمس الاحتياجات هو المبادرة لإرساء بيئة ذهنية سليمة تسعى لامتلاك مهارات “التعلم الذاتي” كاستراتيجية فرضتها طبيعة المرحلة والحق سبحانه يقول في محكم التنزيل:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
وسيكون طرح ذلك وبسطه في الجزء الثاني المكمل لسلسلة هذه الأفكار إن شاء الله، كمتن فلسفي يختلف لبه ونظمه وطريقه تناوله للمعضلة الذهنية والنفسية، ويهدف لتكوين شخصية الكائن الحي “كإنسان” يتطور، وليس كمتلقٍ خامل عبر “رؤية فلسفية تأملية”، وما دونته هنا تأطير وتوطئة لما بعده.
وحين يكتب الإنسان ناصحًا لمجتمعه فليس ذلك دليل مثالية فقد يكون المتلقي أفضل، فالنصح محبة وليس إثبات أفضلية، ولعل ما نخشاه ليس بكائن، ولعل ما ترجوه سوف يكون، وقديمًا قال العربي منشدًا:
“إن السماء ترجى حين تحتجبُ ” …… فرب ضارة نافعة، والحكمة ضالة المؤمن.
للحديث بقية، دمتم بخير