المقالات

أحوال المحققين

الساحة العلمية اليوم تعجُّ بكثرة محققي كُتب التراث الإسلامي، وهذه – لعمري- ظاهرة تتهلل لها سبحات الزمان؛ لما يحصل في ذلك من نشر التراث العلمي الهائل للأمة الإسلامية في شتى الفنون، وإخراجه إلى عالم النور؛ لاسيما وأن الكثير منه ما زال غائبًا في جنبات الخفاء؛ تغطيه ستورٌ كثيفة من النسيان.
وعلى الرغم من هذه الوفرة في مجال التحقيق؛ فإنه قد تسلَّلَ إلى هذا الميدانِ الدخلاء، وذلك كغيره من مجالات العلوم عندما يتصدَّى لها مَن ليسوا من أهلها فيحصل بذلك الدغل والفوضى.
وقد أحببت في هذه المقالة أن أشير إلى أصناف المحققين وطرائق أحوالهم وأغراضهم من الدخول في هذا المجال؛ وذلك من خلال التتبع والاستقراء لما هو موجود في الساحة العلمية، وقد جعلتهم على عشر مراتب:
أولهم: مُحقق ليس له في مجال تحقيق التراث ناقة ولا جمل، وليس له في هذه الصنعة إلا الشهرة في ميدانها فحسب!! قد امتدت يده للعبث في تراث الأمة، وتستَّر خلف الألقاب العلمية البرَّاقة؛ ليروج عبثه تحت أفخم الألقاب وبريقِ بهرجها الخادع، وأعرفُ من هذا النمط أناسًا عندما تقف على تحقيقاتهم تلقى المئات من التصحيفات والتحريفات لكلام المؤلفين ممَّا يندى له الجبين!!
وثانيهم: محقق قد ادَّثَرَ بلباس الزور كذبًا، وأقحم نفسه في مجال التحقيق، وكتب اسمه على أغلفة الكتب والمجلَّدات والرسائل، واكتسب شهرة واسعة، وكل ذلك على حساب المُعوِزين من ذوي الكفاءات العلمية ممن تضعضعت بهم الأحوال وضاق بهم المعاش؛ فأخذ هذا المتشبِّع يشتري جهودهم، ويقطف ثمارها بأمواله التي يقدمها لهم، ولربما اشتراها بثمن بخس، بل ربَّما جيَّشَ بعضُهم جيوشًا من أولئك المساكين؛ ليكتسح ساحة المجد على آلامهم، ويُخرِج الأعمال الضخمة مختومة باسمه، وقد نَسِيَ إلهًا في السماء، لا تنام عينه، يُمهِل ولا يُهمِل، وفي هذا وأضرابه يرد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».
وثالثهم: المحقق السارق، وهو الذي يتربَّص بجهود الآخرين في التحقيق، حتى إذا سنحت له الفرصة استلبها برُّمَّتها مع تغيير بسيط ربما يُحدِثه؛ ليغطي جريرة سوءته في السرقة والاختلاس، ولينال بذلك عرضًا من الدنيا على حساب جهود الآخرين.
رابعهم: المحقق المُلفِّق، وهو الذي جمع أكثر من نُسخة خطية للكتاب الذي يريد تحقيقه، واتخذ أتقنها أصلًا عند تحقيق الكتاب، وبعد ذلك أدخل نصوصًا من النُسخ الخطية الأخرى في النُسخة الأصل التي اعتمدها؛ لاعتقاده بأنها متممة أو شارحة للرواية، وهذا تلفيق لا يصح؛ لأن ما يظن أنه سقط أو خطأ في رأيه هو وجه من أوجه الرواية؛ والصواب أن تبقى الأصول على ما هي عليه، وعدم التصرف فيها ألبتة، وأن تُكتب الزيادة في الحاشية لا في الأصل، وكذا لا يصح تغيير ما ورد في الأصل من الألفاظ التي تحتمل الوجهين بلفظ ورد في النُسخ الأخرى، وإنما عليه بيان ذلك في الحاشية.
وخامسهم: محقق يقتصر في عمله على ضبط نص المؤلف اعتمادًا منه على نسخة خطية وقف عليها، وهي ذات نفاسة وجودة؛ لتميزها عن غيرها بكثير من الفروق، وتبقى هذه النُسخة هي الأصل لغيرها دون أن يشير إلى فروقات النُسخ الأخرى للكتاب المخطوط؛ وذلك لئلا يثقل الكتاب بكثرة الهوامش فيزيد من حجمه، أو لدواعٍ أخرى، وله في ذلك سلف؛ إذ إن كثيرًا من علماء الإسلام والنُسَّاخ المتقدمين كانوا ينسخون الكتب دون الإشارة منهم إلى فروقات النُّسخ الأخرى المتوفرة والحاضرة لديهم حال النسخ والمقابلة.
ويُعَدُّ هذا الصنيع من قبيل النسخ والإخراج؛ لتعم فائدة نشر الكتاب ولا يُعد تحقيقًا كما هو معلوم.
سادسهم: محقق يقتصر على ضبط النص وبيان فروق النُّسخ الخطية بلا تعليق على ما أشكل من أسماء وألفاظ، ولا تخريج للنصوص، ولا تعريف بما يستحق التعريف، وله في ذلك سلف؛ وهو أن بعض علماء الإسلام والنُّساخ المتقدمين فعلوا ذلك واكتفوا به حين نسخوا الكتب.
سابعهم: محقق مُتقن، قام بضبط النص، وأبان الفروق بين النُّسخ الخطية للكتاب، وعلَّق على ما أشكل من الأسماء الواردة والألفاظ، واقتصر على ذلك، دون تخريج للنصوص، ولا تعريف بما يستحق التعريف، وهذه جادة سلكها العديد من علماء الإسلام المتقدمين حينما كانوا ينسخون الكتب، إذ يضبطون النصوص، ويثبتون الفروق بين النُّسخ، ويشيرون على ما أشكل من الأسماء والألفاظ بوضع ضبة (صـ) فوق الكلمة؛ تنبيهًا لدلالة فروق النسخ، ويبينون ما يلزم إلحاقه للمتن من الحاشية، والتقديم والتأخير في الأسماء والألفاظ بوضع علامة فوقها،… إلخ.
ثامنهم: المُحقق المُحيّر، وهو الذي يقوم بما قام به صاحب الفقرة السابقة، إلا أنه يُنهِك النص ويُشوِّشه بكثرة التعليق والتخريج ويبالغ في ذلك التعليق والتخريج؛ حتى يصبح كلام المؤلف سطرًا أو سطرين في الصفحة الواحدة بل ولربما تمادى في التعليق حتى تخلو بعضُ الصفحات من كلام المؤلف، وهذا صنيعٌ يُحير، فهل فعل هذه الطريقة ليزداد أجره المالي بزيادة صفحات الكتاب، أو أنه قصد إفادة القارئ؟! وعلى كلٍّ فالضرر الماديُّ لهذا النوع المُكلِف من التحقيق يقع غالبًا على الشُّبانِ المتوقِّدين لطلب العلم، وهم معقد الآمال لنهضة الأمة، وغالبُهم كما نشاهد ممن لم تستقم أحوالهم المادية.
تاسعهم: محقق مُتقن بارع مُبدع، يُشار إليه بالبنان ويُقبَّل رأسه، وهو الذي يقوم بما قام به صاحب الفقرة السابقة، ويتفانى في خدمة النص، فإذا وقع سقط أو بياض في نُسخ الكتاب المخطوط، يجبره بتتبع من ينقل عن هذا المؤلف، فإذا وقف على هذه الألفاظ التي توافق سياق مكان السقط أو البياض؛ فإنه يدرجه في المتن ما بين معقوفتين هكذا [ ] مع الإشارة إلى المصدر، ولا يفعل هذا العمل الشاق إلا المُحب للتراث، ومن يريد كماله وإتقانه.
ويزيد زيادة على ذلك بتخريج النصوص والتعليق عليها، وصناعة فهارس مفصّلة للكتاب تشرح النفس وتثلج الصدر، وهذا -لعمري- عزيز، وعزيز.
عاشرهم: وهو ما يُعرف بمكاتب التحقيق المكوّنة من فريق عمل يباشر التحقيق نسْخًا ومقابلةً مع مشرفٍ عامٍّ تُدفَع إليه الأعمال، فيراجع ويُعدل ويضيف ويحشي، ويعلق ثم تُطبَع الأعمال باسمه، وهذا لا حرج عليه؛ إذا قام بما يلزمه من الأمور المشار إليها؛ تبرئة لذمته.
هذا ما أستحضره من أحوال المحققين، وأنصح من لهم عناية واهتمام باقتناء الكتب وتحصيلها أن يسألوا ذوي الخبرة من أهل التحقيق عن أجود الكتب وأفضلها تحقيقًا وعنايةً وضبطًا؛ لئلا يضعوا أموالهم في غير محلّها، ولتحصل لهم بذلك الفائدة والعائدة المرجوة من اقتناء الكتب والانتفاع بها.

مكة المكرمة

Related Articles

2 Comments

  1. اللهم بارك مقال مميز وهو غيض من فيض مما عرفناه وشاهدناه من فضيلته جزاكم الله خيرا وبارك في علمكم وعملكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button