منعت بريطانيا الملك عبد العزيز آل سعود من ضم دول الخليج الصغيرة إلى دولته، ولعب حينها الملك عبد العزيز على التوازنات الدولية من أجل استقرار دولته الفتية، ولم يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها له بريطانيا في دول الخليج، مقدرا حجم قوته بالنسبة لحجم قوة بريطانيا فبقيت منطقة الخليج منطقة مقسمة، بسبب أن بريطانيا تدرك الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج حتى تظل تحت الهيمنة الغربية، بعيدا عن القوى المنافسة كالاتحاد السوفيتي.
ومن أجل ضمان عدم حضور الاتحاد السوفيتي إلى منطقة الخليج سلمت منطقة الأهواز العربية لإيران في 1924، وكذلك الجزر الإماراتية قبل استقلال الإمارات بيومين في 1971، ومن قبل سيطرت إيران على جزر عربية مثل جزيرة صرى في عام 1964، وشيدت فيه مطارا حربيا مهما، وسبق أن سيطرت إيران على جزيرة اهنيجم في عام 1950، وكذلك جزيرة الغنم التابعة لعمان والواقعة على مضيق باب السلام المسمى بهرمز.
وطالبت إيران بلا هوادة بالبحرين، واعتبارها جزء من إمبراطوريتها تاريخيا، ففي 11 نوفمبر أعلنت إيران إلحاق البحرين بالتقسيمات الإدارية لإيران معتبرة إياها المحافظة ال14، لكن في 1971 أثبت الاستفتاء الشعبي رغبة البحرانيين في الحصول على الاستقلال، وصادق مجلس الأمن على نتائج الاستفتاء، لكن إيران مستمرة في المطالبة، وحاولت قلب الحكم في 1982 ثم حاولت مرة أخرى بالتسلل عبر ما يسمى بالربيع العربي عام 2011، لكن كانت السعودية لها بالمرصاد فأرسلت جيشها وحمت البحرين ولم تكترث بأمريكا الذي دعم الثورات العربية.
وفي عام 1985 تعرضت الكويت لاختراق بري إيراني وقصف بالصورايخ ومحاولة اغتيال أمير الكويت، ساهم في هذا الاختراق حزب الله كما ساهم في البحرين، ولم تكتف إيران بل قامت في 1986 بمهاجمة ثلاث ناقلات كويتية و10 ناقلات متجهة للكويت، وفي 1988 تمت تسمية حزب الله الكويتي الذي يرتبط بحزب الله اللبناني الذي امتد نشاطه إلى السعودية في الحرم المكي والقيام بتفجيرين في موسم الحج، ولم تتوقف إيران عن استهداف الكويت ففي 2015 تم الكشف عن خلية العبدلي.
تاريخ إيران هدفه انتهاك حرمة الحرمين الشريفين تحت قيادة السعودية، وإثارة الفوضى ليس وليد اليوم، بل يوجد سجل حافل بالأحداث المؤسفة والمخزية التي تتنافى مع قدسية الأماكن المقدسة، ولسنا في وارد حصرها هنا، لكن فقط نذكر أشهر مقولات الخميني وأكثرها حقدا على السعودية، ما ذكره في عام 1987 قائلا ( إن نتنازل عن القدس ونسامح صدام ونغفر له من أساء لنا، أهون علينا من الحجاز لأن مسألة الحجاز هي نوع آخر، هذه المسألة هي أهم المسائل، علينا أن نحاربها بكل طاقاتنا وأن نحشد كل المسلمين والعالم ضدها، كل بطريقته )، لذلك كان عام 1987 في قيام الحجاج الإيرانيين بتأكيد هذا الخطاب باحتجاجات نتج عنها صدام مع الشرطة.
معروف لدى الغرب الخطاب الصفوي وهو خطاب يختلف عن الخطاب الشيعي، عبر الدراسات الاستشراقية، ما جعل فرنسا وأمريكا يتوليان دعم الخميني ودعم الانقلاب على الشاه حليفهم، فقط من أجل محاصرة السعودية، وتدرك أن الخميني سيستخدم كل الطرق من أجل الوصول والهيمنة على الأماكن المقدسة في السعودية، واكبر مثال على ذلك إطلاق الحوثيين صواريخهم على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، لكن يبدو أن المصالح تغيرت اليوم، ولم تتوافق مع ملالي طهران، وأصبح الهم الرئيسي هو مواجهة الصين، فلابد أن تستعيد المنطقة استقرارها حتى تتفرغ أمريكا لمواجهة الصين بدلا من انشغالها بمنطقة الشرق الأوسط وتخشى أن تمتد يد الصين إلى المنطقة.
لم تقف التحديات على التهديدات الإيرانية لدول الخليج، بل واجهت السعودية عواصف القوميين والبعثيين والإسلاميين المتشددين، وفلول اليسار الشيوعي، في الخمسينات والستينات حتى التسعينات من القرن الماضي، ليس هذا فحسب بل تصدت السعودية لتصدير الثورة الخمينية التي زرعها الغرب انتقاما من السعودية على قطع النفط عن الغرب في 1973، ولم يكتف الغرب بذلك بل احتل العراق في 2003 انتقاما من أحداث 11 سبتمبر 2001 وتم تسليمه لإيران كبوابة للنفوذ الإيراني إلى المنطقة العربية وهو ما حدث بالفعل.
اليوم تستوعب الرياض التحديات الحالية والقادمة وتدرك أن جماعة الإخوان المدعومة أمريكيا وتركيا استطاعت اختراق دول الخليج الغني بالنفط والغاز عبر دولة قطر وعبر إمبراطورية إعلامية بحجة تصدير الديمقراطية حتى مجئ ثورات الربيع العربي التي هي جزء من تصدير الديمقراطية للمنطقة، لكن فشل تصدير الديمقراطية في العراق جعل السعودية تقف بالمرصاد لهذه الموجة المزعومة، وأصرت على انتشال البحرين ثم انتشال مصر من فك الإخوان، ونتج عنه سقوط مدوي للإخوان، فزادت شراستهم للمنطقة عبر امبراطورية إعلامية تمتلكها دولة قطر، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل ورطت أردوغان ونصبته خليفة لهم، في المقابل وجد أردوغان بعد الانقلاب عليه في 2016 أنها فرصة لمنافسة إيران التي تود أن تستأثر بالمنطقة العربية بتمكين أمريكي، وكذلك تركيا بتمكين أمريكي.
عالجت السعودية الأزمة التي نضجت بعد امتناعها عدد من المرات عبر وساطات كويتية وأمريكية لكن هذه المرة تمر المنطقة بتحولات وإدارة أمريكية جديدة، خصوصا وأن دولة قطر خلال الأربعين شهرا لبت معظم ما هو متوقع منها، وبشكل خاص غادرتها قيادات الإخوان وتوقفت في الأغلب عن تمويل المنظمات الإرهابية، ونقلت كثير من عملياتها الإعلامية إلى دول أخرى.
عالجت السعودية الأزمة عبر الاحتواء، قد لا يفهم كثيرون هذه المعالجة، ويعتبرونها معالجة على طريقة العشائر، وهناك الإخوان الذين حاولوا التشكيك في هذه المصالحة لأنهم الخاسر الوحيد من هذه المصالحة، واعتبروا قطر المنتصرة، وأن المصالحة كانت تحت ضغط أمريكي من أجل ضربة أمريكية لإيران، رغم أن ذلك لن يحدث إلا إذا تخطت إيران الخطوط الحمراء فقد هددت أمريكا بضرب 52 هدف محدد مسبقا حتى ولو كان عبر الغير أساسا إيران لا تحارب حرب تقليدية مباشرة بل تحارب عبر الغير، لكن إيران تحاول تجنب أي رد كبير، ولا وتود إغضاب الإدارة الأميركية الجديدة، وتتجنب أي ضربة قاصمة وهي تؤمن بحقيقة هذه الضربة القاصمة رغم الخطابات الرنانة.
فمصالحة العلا انتصارا سعوديا وانتصارا لمجلس التعاون الخليجي الذي وجد ليبقى، باعتبار أن الأزمة الخليجية كانت وضعا استثنائيا لسنوات مضت، لذلك ركزت المصالحة على مبادئ تجاوز الخلاف وقواعد لحوكمة علاقات الدول مستقبلا، وأساسيات الاتفاق عدم المساس بأي دولة أو التدخل بشؤونها أو تهديد الإقليم.
استقبل العالم أخبار قمة العلا ومصالحتها على عكس إيران والإخوان بسبب أن العالم فهم أن هناك مرحلة جديدة ليس في علاقة البلدين فقط، وإنما في مسار مجلس التعاون الخليجي في ظل خلافات بين أميركا واصين ليسلط الضوء على أهمية المصالحة في هذا التوقيت.
ستنعكس القمة الخليجية على القمة العربية في إعادة تصويب السياسات العربية والاهتمام بمصالحها القومية، بل إن المصالحة الخليجية العربية مع مصر بوابة إلى مصالحات أوسع وأكثر شمولا مع تركيا لأنها وجدت في المصالحة رسالة بوقف التدخل في العمق العربي بعدما فتحت الخلافات شهيتها نحو التوغل جنوبا في المنطقة العربية، وأرسلت جنودها إلى قطر، وأنشأت قاعدة عسكرية في قطر طمعا بتوسيع نفوذها، لكن تلقت ضربات سعودية وعربية أليمة وقاصمة، ساهمت في انهيار اقتصادها، ما جعل تركيا تبارك هذه المصالحة وتعرض على دول المجلس تعزيز التعاون بعد اتفاق العلا باعتبار أن تركيا شريك استراتيجي له، فيما إيران اختارت لنفسها العداء الدائم للسعودية الذي حولته إلى عداء عقائدي، فيما الخلاف بين الرباعية وقطر ليس عقائديا بل هو خلاف سياسي.
اكتشف النظام التركي أن السعودية ومصر دولتان لا تستطيع تركيا الوقوف أمامهما، وكيف أنهما استطاعتا تبديد أحلام إردوغان الوردية، وأعطته درسا في أن الاستمرار في سياسة الصدام ستكلف تركيا غاليا من الناحية الاقتصادية وحتى السياسية وستزيد عزلته وعزلة تركيا.
وبعدما أبدى أردوغان عنادا ومكابرة غير مسبوقين في السنوات بعد إقامة القاعدة العسكرية في الدوحة عام 2017 من أجل أنه كان يراهن على انتزاع مكاسب جيوسياسية، وجعله يفجر معارك على أكثر من جبهة، حتى وجد نفسه عالقا في أزمة شديدة، اكتشف عندها أن حساباته كانت خاطئة، وأنه لم يستوعب حجم القوتان السعودية والمصرية، ما جعله يتراجع عن كثير من المواقف المتشددة سواء فيما يتعلق بالملفات الداخلية أو الخارجية، وبذلك سيتخلى الجميع عن دعم الإخوان أو عن استخدامهم كورقة، أي أن دورهم انتهى لم يتبقى لهم سوى الاندماج في مجتمعاتهم والتخلي عن مشروعهم التنظيمي والحركي الذي قادهم إلى العنف.
هناك انعطافة في الموقف التركي تجاه ليس فقط السعودية، بل حتى حيال فرنسا والاتحاد الأوربي، وهناك مراجعة للسياسات الخارجية التي انتهجها أردوغان في الفترة الماضية، والتي فاقمت أزمات أردوغان وبلاده، فبدأ تعديل بوصلته تجاه السعودية وفرنسا بشكل خاص، لأنه يرى أن السعودية مفتاح العرب، وفرنسا مفتاح أوربا، فالسعودية وفرنسا ومصر مارسوا منذ أشهر طويلة حملة مكثفة لتضييق الخناق على تركيا في الفضاء الأوربي وفي شرق المتوسط وفي البحر الأحمر.
بدأ أردوغان يستخدم لهجة تصالحية لتصحيح مسار العلاقات مع الاتحاد الأوربي ومع السعودية والعرب على خلاف خطاباته المتشنجة السابقة، ففي 11 يناير 2021 أعلن عن استئناف المباحثات مع اليونان في 25 يناير المباحثات الاستطلاعية بهدف تسوية النزاع بينهما حول التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط بعدما استبعدته مصر من منتدى غاز شرق المتوسط ردا على تدخله في ليبيا، وسيكون هذا الاجتماع الأول منذ تعليق ما يسمى بالمحادثات الاستكشافية بين الجارين بعد 60 جولة غير مثمرة استمرت 14 عاما في 2016.
لم يعد أمام الإخوان الذين يعتبرون أنفسهم الوحيدون الخاسرون بعد قمة العلا سوى اللجوء إلى الحديث عن تسارع عمليات التطبيع وخطرها على النظام الإقليمي، وبشكل خاص على دول القلب وقلب القلب تقصد القلب دول الخليج وقلب القلب السعودية، ويروجون من أن اليهود لا يحبون التاريخ لكنهم يوظفونه من أجل أن هناك ملفات كثيرة منها موضوع استرداد ومطالبات تعويضات عن خيبر، وكأن السعودية دولة قاصر غير قادرة على إدارة أزماتها، وهم الوحيدون الذين يحذرون السعودية من مخططات تحيك بالسعودية ولكنه اصطياد في الماء العكر ويستهدفون البسطاء من أجل تجييشهم ضد بلدهم.
يروجون كذلك من أن اليهود يعتبرون دول الخليج يهتمون بالتجارة وليس بالسياسة، فهم يلعبون على هذا الوتر في دعم تجارتهم، خصوصا وأنهم أيضا ماهرون في هذا الجانب، وبشكل خاص يعتبر أهل الخليج مستهلكون فيستطيعون دعم الاقتصاد الإسرائيلي المتذبذب، والحصول على النفط بأرخص الأسعار بسبب قربه منهم، ومعالجة كثير من القضايا على رأسها ملف المياه حيث إسرائيل تسرق المياه العربية، لكن من خلال التطبيع يمكن التفاوض حول هذا الملف، كأنهم لا يتابعون موقف السعودية التي رفضت أي تطبيع مع إسرائيل إذا لم تقم دولة فلسطينية وفق المبادرة العربية التي تبناها الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله عندما كان وليا للعهد في بيروت في 2002.
ولا يعترفون من أن السعودية تلاعب إسرائيل، وهو ما لم يفهمه الإخوان أو أنهم لا يريدون أن يفهموا، ولكنهم في حالة مرتبكة ولا يريدون أن يخالفوا مواقف المصالحة التي وقعتها حليفتهم دولة قطر وما يخوضوا فيه يبدو للمتلقي من انه تحليل لموقف اليهودي الذي يهدف نحو النفوذ، ويتجاهلون أن تطبيع دولة الإمارات والبحرين والسودان من أجل رفع السودان من قائمة الإرهاب تحقق لها ورفعت من القائمة، والمغرب مقابل الاعتراف بمغربية الصحراء وحدث، ويروجون أيضا عبر اللقاءات الإعلامية التي يجرونها من أن إسرائيل تقصد قلب القلب أي السعودية، لكنهم لا يذكرون من السعودية ردت من أنها لن تتجه نحو التطبيع سيكون مقابل إقامة دولة فلسطينية.
تدرك السعودية أن إيران تحالفت مع إسرائيل وأمريكا والغرب في تشكيل داعش لتفتيت المنطقة العربية، لكن إيران بسبب أنها دولة مسلمة جيشت الشيعة، ولعبت على وتر الطائفية، فاكتسحت المنطقة وتوسعت في نفوذها ما جعل إسرائيل تنزعج لأن هدفها تقاسم النفوذ ولكن لم تحصل إسرائيل على أي نفوذ، وبدأت المواجهة بين الجانبين، وحاولت إسرائيل أن تشعر العرب أن المواجهة مع إيران عدوتهم يلتقي معهم، ويخدم مصالحهم، فنتج عن ذلك تطبيع غير مكتمل حتى يتحقق ما يرنو إليه العرب وهو تحجيم النفوذ الإيراني وقيام دولة للفلسطينيين.
يزعج الإخوان المصالحة مع قطر التي تعيد تماسك مجلس التعاون الخليجي، وخطوة مهمة لاستعادة التوازن الاستراتيجي بالمنطقة، وتكريس حقيقة أن العمل العربي المشترك هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه الأمة العربية، باعتبار أن قمة العلا مصالحة عربية تعزز قدرتها على تجاوز المشكلات الذاتية لصالح المكاسب الجماعية القائمة على التقدير المتبادل، بل أنها تعزز بناء القدرات الذاتية العربية في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية لصالح النظام الإقليمي.