شَرْط الجلوس في حضرة الدّكتور عبد الله سليمان منَّاع – الذي وافاه أجله اليوم – أنْ تُقْبِلَ عليه بكيانك كلِّه، وأنْ تتحوَّل حواسُّك كُلُّها إلى أذنٍ تسمع، وعينٍ ترى..
كُنْتُ كُلَّما التقيتُ هذا الرَّائد الكبير، أُنَحِّي أيَّ رغبةٍ في التَّحاوُر أو السِّجال، فإذا كان كلامٌ فسؤال يبعث فيه الشَّجن، فيسترسل في ضحكته السَّاخرة الصَّادقة، وكأنَّه يحبُّ منك أنْ تعترف له بشيء مِنْ قيمته – وهو قيمة كبيرة وأصيلة في ثقافتنا = فيذهب بك في دُروب بعيدةٍ، ويأخذك إلى تفاصيل لا يجيدها أحدٌ سواه، في الأدب الحيِّ الذي عايَنَه وأدركه يومَ عاش شابًّا مع شيوخ الأدب عندنا، وكأنَّه واحدٌ منهم، وفي السِّياسة التي عرفها، منذ شبابه الباكر، في الإسكندريَّة، يتلقَّى، على مقاعد الدَّرْس، وفي المعمل والمختبر، دروسًا في طبّ الأسنان، ودروسًا أخرى في الشَّارع والقهوة والصَّحيفة، في السِّياسة، وعبد الناصر، ذلك الزعيم الذي أحبَّه، وفي الفنِّ والموسيقا وعبد الوهَّاب، وفي الصِّحافة هذه المهنة التي جعلته رائدًا فآثرها على طبِّ الأسنان.
كان الدكتور عبد الله منَّاع – رحمه الله – مَجْمَعًا للمختلِفات، كُنْتُ أُحِسُّ أنَّه – وقد عرفتُه قديمًا – (باشا)، أو (لورد)، له سَمْتٌ لا ينزل عنه أبدًا، لكنَّك تستطيع أنْ تعتدَّه (باشا شعبيًّا) يجتمع حوله هُواةُ الأدب والصِّحافة والسِّياسة، أولئك (الحرافيش) الذين لا يَعْدِلون به أحدًا، والذين أحبُّوه وبالغوا في الإعجاب به، لَمَّا عرفوه وجلسوا بين يديه.
كان في عبد الله منَّاع شيء ساحر.. كان فيه ما يجعله في قلب المشهد الثقافيّ والأدبيّ والصَّحفيّ والاجتماعيّ، وكُنْتُ أعجب كيف تأدَّى لشابٍّ صغير لمْ يُتِمَّ – حينئذٍ شهادته الجامعيَّة – أن يكون (كبيرًا)، وأن يصبح صديقًا لشيوخ الأدب، وأن يكون مِنْ أصفياء محمَّد حسن عوَّاد، وعزيز ضياء، وأحمد قنديل، ومحمَّد حسين زيدان، وأن يمتاز، مِنْ بينهم، بأسلوبٍ أدبيٍّ، وأن يصبح، عمَّا قريب، سيِّد المقال الأدبيّ والسِّياسيّ، دون أن ينسى القصَّة القصيرة والرِّواية.
أعود، مرَّةً أخرى، إلى مجلس الدكتور عبد الله منَّاع في هذه القهوة أو تلك في مدينته الحبيبة #جدة. كُنْتُ أحضر مجلسه – وبالأصحّ الجَمْعة أو اللَّمَّة – في نفرٍ مِنْ أصفيائه ومُريديه، وكُنْتُ أُوَطِّن نفسي على الشَّرط غير المعلَن للجلسة: أنْ لا أجادله ما دامتِ النِّيَّة أن أَجُولَ في عقله ووجدانه، ولْأُرَوِّض نزعات المجادلة، حتَّى أظفر بأكبر قَدْرٍ مِنْ أحاديثه الماتعة. والحَقُّ أنَّني أدركْتُ شيئًا مهمًّا في شخصيَّته، هو كبرياؤه وعِزَّتُه وأَنَفَتُه، فالرَّجُل الذي كان – مِلْء السَّمع والبَصَر – صار يؤنسه أن يَذْكره أصدقاؤه.. أن يُقِرُّوا بريادته – وهو رائدٌ حقًّا – ويُسْعِده أن يسمع ما يُذَكِّره بذلك، وما كُنْتُ لأحضرَ، وفي البال مجادلته ولا مساجلته، وحَسْبي أن أُدْخِلَ عليه شيئًا مِنَ البهجة والفرح، ولْأَقُلْ شيئًا مهمًّا: إنَّني أجلس في حضرة رائدٍ كبير، وشاهدٍ على العصر، وهذا يكفي.
أَحَبَّ الدكتور عبد الله منَّاع مدينتين؛ جُدَّة، مسقط رأسه ومَدْرَج أحلامه، و #الإسكندرية، حيث دَرَسَ طبَّ الأسنان في جامعتها [في عَشْر السَّبعين من القرن الهجريّ الماضي = عشر الخمسين مِنَ القرن الميلاديّ العشرين]، وكان يستجلب نظري أنَّ عبد الله منَّاع الذي وُلِدَ في #حارة_البحر، في قلب جُدَّة القديمة، لمْ يَكُنْ لِيُصَوِّر (العروس) في صورة مأثورٍ شعبيّ، أو زِيٍّ أوْ رقصة. كانتْ جُدَّة، لديه، أوسع مِنْ ذلك، ولمْ تَطْغَ عليه “شَعبيَّتُها”، وما كان مقدورًا لها أنْ تطغى وهو (اللُّورد)! لكنَّه استوعبها على نَحْوٍ مُبايِن، دون أن يَنْزِل عنْ شرط الانتماء إليها، وأنَّه ابنُ حاراتها الأربع القديمة التي احتضنها السُّور، وكان يُثِيرُني عليه [وقليلًا ما كُنْتُ أفعل ذلك] أنَّه لا ينبغي لأحدٍ أن يتحدَّث عنْ تاريخها وتراثها مادام بيننا، ولكنَّني سَرعانَ ما أستذكر التَّاريخَ الذي حَمَلَه على ظهره، وأنَّه كان شاهدًا على مكانٍ وعصرٍ وتراث = والشَّرطَ الذي أخذتُه على نفسي!
سأحِنُّ، كثيرًا، إلى قهوةٍ كُنْتُ أجتمع فيها بالدّكتور عبد الله منَّاع، وسأفتقد ضَحِكَه وسُخريته وتصنيفاته، وحتمًا سأتذكَّره، دائمًا؛ سأتذكَّر الرَّائد الكبير، والأديب المبدع، والصَّحفيّ المعلِّم، والأستاذ، والصَّديق.
رحمة الله عليك وبركاته أبا عمرو.
رحمه الله وغفر له وأنزله الفردوس الأعلى من الجنة وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان ..
مقال من صميم القلب
صدق العرب عندما قالوا:
«رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك»
رحم الله الراحل عبدالله مناع ابا عمرو لقد ولد كبيرا وعاش كبيرا َما كبيرا رجل أنيق في كل شيء في كلامه في صداقته في حديثه في كتاباته… لقد كان معلما صادقا صدوقا يهتم بكل التفاصيل محبا للخير لا أنسى الايام التي جمعتنا لقد تعلمت منه الكثير والكثير رحمه الله رحمة واسعه وغفر له ونسأل الله أن يلهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون،،،
اللهم اغفر له وارحمه واجعل الفردوس مثواه وانا لله وانا اليه راجعون