يقول ابن حزم الأندلسي: “لن تتوقف رسائل الشوق إليك.. حتى يفنى بي العمر أو ألقاك”. هكذا نشر ابن حزم طي الشوق، ونشره ابن الرومي حين ربط ديمومة ذلك الشوق بحال الوصل، وإلى ذلك الحين سينعم شوقنا بالعيش..
ندية الشوق واللقاء، وحربهم الكبرى هي موضوع النقاش وبادئة السطر في نمير الشعراء، وتراكيب النظّام، وهي الأحرف المضيئة في كل منثور يصور الحب ويعبر عنه، وربما أكبر وأكثر، فالقرآن أثبت واقع البيان، وأوضح التبيان لتقرير ما نحسبه هينًا، وهو على القلوب عظيم، ولعل الآية (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا) توحي بطرف عن تلك المرارة؛ وذلك البغي الذي يزأر كل ما لاحت رايات الفراق والبعد.
أثبتت أمراض القلوب وأوجاع الأرواح أنها قادرة على تصريف الأجساد ضمن حدود سلطتها، وها هي تأمر وتنهى، وتقيم وتسقط، وتلبس العظم جلدًا، وتصبح به تلك العينين البهية باهتة أعياها الدمع.
قد غالب المتنبي ولازال بيته يغالب:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلبُ.. وأطلب منك الوصل والنجم أقربُ
حياتي وموتي في يديك وأنني.. أموت وأحيا حين ترضى وتغضبُ
نستطيع القول إن ذلك الخليط الذي تستشعره، وتلك المعارك التي تخوضها يحددها مثلث ذلك المزيج وأهرامه الثلاثة الشوق من جهة واللقاء، والاكتفاء من جهة أخرى، وأيهما يسبق يكون أحق بصنع طبيعتك، وهي حرب من أجل اللقاء وصولًا للاكتفاء وهروبًا من الشوق واللأْواءُ، فيكون الاكتفاء أكبر تلك الأهرام وسيدها، وغاية المرء ونهايته.
” الشوق لا يورث إلا الحزن” هكذا صوره “طه حسين”، ويبقى في كل دجنّة سوداء فرجة بيضاء، وذلك الركود الذي تُمنى به بعض النفوس، وتعيشه بعض الأرواح قد يخرج منه التوق ناتجًا يقف الدهر على بابه، ويستقيم الجمال بأعتابه، فما عجز عنه غيره لن يعجزه تحريره، والقوة الأكبر القادرة على إذابة جماد المكنون، وتجيير ذلك الصوت البارد إلى نغمة نأي تعجب السامع، وتعيد الراتع.
الشوق يعطي روحًا وقلبًا غير التي تملك، وعينان ببصيرة تتحرك بنور الحنين، فكل ما تمر به وتمضي عليه هو رهينة ذلك، فظلال الهياكل التي تأخذ بُعد عينيك بين الفينة والأخرى هي صورة متحركة لذلك المحبوب، كما أن الزوايا المظلمة والتلال الرابية تأخذ صفة من أحببت؛ حتى وإن كانت جمادًا لا تأبه بك.
نامت ببابك أشواق محــــملةٌ تثاقلت.. فترى هل يفتح الباب؟!!
أخيرًا…كل ما يمكن استثماره بغرض ترقية الروح، ورفع كفاءة القلب يأخذ قيمة أكبر مما هو عليه….. ولكن للأذكياء فقط.