المقالات

صناعة الطائرات (٤)

بعد أن انتهينا من سرد مقدمة عن الطيران والمخاطر الخارجية والداخلية التي تتعرض لها الطائرة في خلال رحلتها الجوية في المقالات السابقة، سندخل الآن إلى معترك صناعة طائرات الركاب التجارية، وليعلم القارئ أن المصانع الأم للطائرات العملاقة في العالم هي في الحقيقة هرم صناعي عملاق فلا تقوم بصناعة الطائرة بأكملها، ولكنها تصنع بعض الأجزاء منها، وباقي الأجزاء يقوم بصناعتها مصانع أجزاء الطائرات Build to Blue Print التي تقوم بتشكيلها وتجميعها معًا مكونةً أجزاء رئيسية من الطائرة ثم يقوم رأس الهرم، وهو المصنع الأم بتجميع جميع تلك الأجزاء الرئيسية، وتركيبها معًا؛ ليخرج إلى الوجود مكون أسطوري عملاق وجميل أشبه ما يكون بعنقاء ألف ليلة وليلة اسمه “الطائرة:.
‏أول ما يصنع في الطائرة هي الخرائط الزرقاء، ومعها شرائح الميلار، وهي المرجع في المقاسات إذا فقدت الخرائط أو إذا كانت هنالك مشكلة عند التطبيق، ويقوم بذلك مهندسو التصاميمDesign Engineer ولكن علام تستند الخرائط؟ إن تلبية رغبات ومتطلبات العميل هو أمر لا جدال فيه سواء كان عسكريًا أو مدنيًا أو تجاريًا، لكنه لن يكون قابلًا للتطبيق مالم تستوفِ جميع شروط الجودة والسلامة، لذلك فلابد من مواءمة متطلبات العميل مع شروط الجودة وسلامة الركاب المرتبط بسلامة الطائرة.
‏ وإن واحدًا من أهم المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة الطائرة، ويجب الأخذ بها في الحسبان عند تصميم كل قطعة من قطع الطائرة صغيرة كانت أو كبيرة هي القوى السلبية، والقوى الإيجابية وتلك مهمة مهندسي قوى الإجهاد أو ما يسمى بـ Stress & Force Engineer، ويكون دورهم متناغمًا مع مهندسي لتصاميم، فبعد أن يقوم المصممون بتطبيق الوزن المتوقع للطائرة مع المواصفات المطلوبة كالمدى وعدد الركاب والإرتفاعات والسرعة المتوقعة؛ ليظهر الشكل ما قبل النهائي للطائرة فيتم عندها تصنيع نماذج أولية مصعرة تسلم لمهندسي قوى الإجهاد للقيام بتطبيق تشبيهي للقوى المؤثرة الجوهرية المخفية التي تؤثر على عالم صناعة الطائرات؛ وذلك على الأجزاء الرئيسية للطائرة ثم على الطائرة بأكملها؛ وذلك بإجراء اختبارات الجهد والقوى؛ وبناءً على نتائج تلك الاختبارات يتم تعديل تصميم كل قطعة لإزالة القوى السلبية والمحافظة على القوى الإيجابية، وبعد أن تنجح الاختبارات المعملية للقطع المعدلة يتم اعتماد التعديلات في الرسومات الفنية لتقوم مصانع قاعدة الهرم بالتصنيع الحقيقي لقطع الطائرة ثم إلى مصانع التجميع، كما ذكر أعلاه ثم إلى المصنع الأم للتركيب، ومن ثم إجراء التجارب الحية الحقيقية على الطائرة الجديدة.
‏ونعود إلى المؤثرات التي ذكرنا بأنها تؤثر على تصميم كل قطعة ألا، وهي القوى السلبية والقوى الإيجابية الهيكلية، ونشرحها بإيجاز لفهم تأثيرها والتأكد من أنها موزعة بشكل متساوٍ فلا تتكون أي نقاط ضعف، فهي تؤثر على التصميم والخامات والمقاسات ونوع ومقاس البراغي والصواميل سلبًا وإيجابًا.
‏ونبدأ أولًا بالقوى الإيجابية التي تكوّن الطائرة، وتجعلها كتلة واحدة، وهي قوة التماسك الترابطية Bonding & Cohesion Forces وهي القوى المطلوبة التي تؤدي إلى ترابط مكونات الهيكل الرئيسي مع بعضه البعض ثم مع الأجنحة، والذيل، والمحركات فتصير الطائرة قطعة واحدة متماسكة في الهواء، فلا طيران بدونها.
‏ثانيًا: القوى السلبية المؤثرة على سلامة الهيكل، وهي القوى التي تؤدي إلى تكسر أو تفكك الهيكل – جزئيًا أو جوهريًا – أو تفقده أحد محاوره، وتتكون إما خلال أو بعد التصنيع، ولا يمكن إلغاؤها تمامًا طالما أن الطائرة تطير وتقلع وتهبط وتمر بظروف جوية صعبة، ولكن يتم تصميم هيكل قوي قادر على منعها من التكون، وإذا تكونت يتم احتواؤها ومن ثم تحيدها، والقوى السلبية هي الخمس قوى التالية: قوى السحب Tensile Force هي القوة السلبية الأولى، وهي عملية تباعد فيزيائي عاكسة لتأثير قوى الترابط والتماسك، وبالتالي فهي قوى عكس ترابطية أي أن ظهورها يعني تلاشي القوى الترابطية بما يهدد الهيكل بالتفكك، وتأثيرها يسمى إجهاد الشد Tension Stress، وهي تظهر في ثلاث مواطن الأولى عند وقوع أخطاء خلال عملية شد الهياكل والثانية بسبب إضافة مادة أو معدن بالخطأ بين مادتين والثالثة إذا حصلت عملية صدأ أو أكسدة داخل شقوق لدائن الألمنيوم بسبب ضعف خام السبائك أو بسبب ضعف حمايته.
ثانيًا قوى الضغط والكبس Compression Force، وتتولد بتكوين ضغط عالي على أحد النقاط بالهيكل أعلى مما صممت لتتحمله، وتعتبر قوى فرط ترابطية.
ثالثًا قوى القص Shear Forces: وتتكون عندما تتحرك إحدى الشرائح الهيكلية عن موقعها قسرًا فتضغط حوافها على أجسام البراغي والمسامير حتى تقصها، وهي لا تظهر للعيان عادةً إلا بعد حدوث القص.
‏والجدير بالذكر حادثة طائرة بوينغ 737 التابعة لخطوط ألوها للطيران التي كانت في رحلة من هيلو إلى هنولولو بتاريخ 28 أبريل 1988م، وعلى ارتفاع 24000 قدم ما يعادل 7300 متر، وفي درجة حرارة تساوي -45 تحت الصفر؛ حيث كانت قوى قص عالية قد تكونت منذ فترة ما بين الجسم العلوي Crown Section والجسم الأوسط لجسد الطائرة Windows Side Skin بسبب ضعف المنطقة وعدم وجود أي فحوصات جودة تكشف الخلل منذ بداياته حتى تطور دراماتيكيًا، وحيث إن ما يربط الجسمين معًا هو شريط دعم طولي متداخل من الجسمين يسمى شريط الالتحام المفصلي Overlap Joint يحوي ثلاثة صفوف من البراشيم، فقد نزلت قوى القص في المنطقة الأمامية من جسد الطائرة على صفوف البراشيم العلوية فلم تتحمل البراشيم قوة ذلك القص فقصت رؤسها وطارت البراغي بأكملها واحدًا تلو الآخر، وفي خلال دقائق، وربما ثوانٍ كانت عملية القص قد اكتملت والطائرة في الجو فانفصلت الصفائح الأمامية العليا من جسد الطائرة بالكامل فطارت إحدى المضيفات وتوفيت في الحال، وأصيب أكثر من خمسين شخصًا بعد أن كادت تقع كارثة عظيمة تنتهي بمقتل جميع الركاب وطواقم الخدمة والقيادة إذ إن التنفس كان شبه مفقود بسبب انعدام وجود كمية كافية من الأكسجين في ذلك الارتفاع، ولكن قبطان الطائرة ومساعده حافظا على رباطة جأشهما ولم يصابا بالهلع فخفضا من السرعة، وهبطا بالطائرة إلى مستوى مناسب للحصول على الأكسجين الكافي حتى هبطت الطائرة بسلام بعد أن طار جزء كبير من سقفها في الأجواء العليا من الجو في حادثة تُعد من أغرب حوادث الطيران في التاريخ، وقد نتج عن الحادث برامج قوية جدًّا لفحص نفس المنطقة في جميع الطائرات في العالم من ذات الطراز، وتم إصلاح وترقية الطراز بأكمله في جميع أنحاء العالم؛ وبذلك تم تفادي تلك المشكلة. القوى السلبية الرابعة وهي الانحناء Bending Force، وتؤدي إلى ثني لوح الهيكل خطًا بزاوية انحناء ليست في التصميم حول أحد المحاور وهو خلل واحد ينتج بسبب قوى الإنحناء السلبية ويؤدي إلى نشوء جهدين سلبين معًا هما جهد الضغط على سطح الإنحناء في السطح الآخر جهد السحب، وقد يتسبب ذلك في حدوث كسور في الهيكل. والقوى السلبية الخامسة هي قوى الإلتواءTorsion Force وهي القوى القاهرة الخطيرة فحين يصاب أحد الهياكل الرئيسية بالتواء حول محوره سيفقد التكوين والتموضع الأصلي بسبب تأثير مفرط لمجموعة من القوى السلبية معًا، وقد يحدث نتيجة لتعرض الطائرة لحادث ما أو نتيجة هبوط قاس جدًّا، وهو ما يجعل الهيكل يفقد أحد محاوره، ومثل هذا الإلتواء الهيكلي عادة غير قابل للتعديل، ونتيجته تكون في العادة إتلاف ذلك الجزء من الطائرة، وقد يصل إلى إحالة الطائرة بأكملها إلى الإتلاف، وهو ما يتسبب في خسائر عظيمة لشركات التأمين والشركات المشغلة، وفي بعض النوادر القليلة تمكنت إحدى الشركات الإقليمية المشغلة بالتعاون مع المصنع الأم من استحداث أطقم لإصلاح، وإعادة الهيكل الرئيسي لجميع محاوره الصحيحة، ونجحت في ذلك وعادة الطائرة للخدمة.

Related Articles

One Comment

  1. يسعد مساك اخي واستاذي ابو ابراهيم دائما مبدع وشهادتي فيك مجروحه لأني تشرفت بالعمل تحت ادارتك بالخطوط السعوديه فكنت خير معين لنا في جميع الأمور الفنيه والاداريه.كنت تمتلك الخبره الفنيه والاداريه والماليه التي مكنتك من انشاء أداره تعتبر الان من اهم الإدارات التي ساهمت في نجاح الشركه وتطويرها… اتمنى لك التوفيق والنجاح في كل امور حياتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button