المقالات

نظام المرور وجسور “كونيغسبيرغ” السبعة

تملّكت الحيرة سكان مدينة كونيغسبيرغ Konigsberg -“كالينينغراد” الروسية حاليًا- أمام سرّ مدينتهم العجيب الذي أصبح مع الزمن تحديًا قائمًا لزوار المدينة من العلماء وسكان المدن والبلدات المجاورة، ويتحتم لمعرفة هذا التحدي أن نعرف بأن المدينة قديمًا كانت عبارة عن جزيرتين بينهما جسر واحد؛ وستة جسور أُخَر تربطهما بضفاف نهر بريغيل Pregolya المحيط بهما، والسرّ العجيب لهذه المدينة فهو تحدي استخدام الجسور السبعة للانتقال بين الجزيرتين واليابسة بشرط واحد فقط، وهو (المرور بكل الجسور ولمرة واحدة فقط).

​ظلّ هذا التحدي قائمًا لعقود طويلة حتى أنهاه عالم الرياضيات السويسري المهندس ليونهارت أويلر Leonhard Euler بعد تحليل هندسي رياضي للمسألة؛ ليتوصل بأن الحل وفق الشرط المطروح من المستحيلات المنطقية، ونشأ عن هذا التحليل لــ”أويلر” ما يعرف اليوم بنظرية المخططات Graph theory في الرياضيات وعلم الشبكات في الحاسب وتخطيط الطرق، وملخص تحليل “أويلر” أنه أطلق مسمى (الرؤوس) على مناطق الجزيرتين واليابسة؛ ومسمى (الأضلاع) على مسارات الجسور، ووضع محددات رياضية: بأن أي مخطط للانتقال والعبور لا يمكن حله إلا إذا توفر عدد زوجي من الجسور يربط كل جزيرة أو يابسة باستثناء منطقة الانطلاق ومنطقة النهاية يكون عدد جسورها فرديًا.
​وبالعودة لنظام المرور في واقعنا نجد أن روعة (بعض) أنظمة المرور تتبدد وتتشوه نتيجة أسلوب تطبيقها الذي يخلق معضلة شبيهة بمعضلة جسور “كونيغسبيرغ” السبعة غير القابلة للحل، فبسبب التطبيق نجد (بعض) الأنظمة (عمليًا) بعدما كانت للسلامة بالالتزام بها؛ أصبحت تحديًا لاستحالة الوقوع في مخالفة الالتزام بها.

​ولأمانة البيان لابد أن نوضح بأن المرور بكل جهوده المتطورة والرائعة تنحصر مسؤوليته في تنظيم حركة السير على ماهو قائم من شوارع وطرق مع تفويضه لاختيار أماكن وضع الإشارات الضوئية فقط، أما المسؤول عن تخطيط وإنشاء وتجهيز شوارعنا وطرقنا هما جهتان: إدارة الطرق بالأمانات والبلديات لتخطيط وتنفيذ الشوارع والطرق داخل المدن، ووزارة النقل مسؤولة عن خارج المدن. مع شيء من التداخل بينهما في هذا التوزيع أحيانًا؛ فمثلاً تجد خطًا دائريًا جزءًا منه ينفذ من قبل وزارة النقل، والجزء الآخر من قبل إدارة الطرق بالأمانة!! ولم أقف على سبب ذلك.


​وكمثال حي لأنظمة التحدي (نظام السلامة من خلال الالتزام بالانعطاف أو الالتفاف)، بدون وجود إشارات الأسهم الأرضية الإرشادية، كما هو معمول به في بعض مدن المملكة، أما المثال النموذجي الداعم للنظام نجده في مدينة ينبع؛ حيث الأسهم الأرضية الإرشادية كافية لتحقيق السلامة المرورية، ولعل الصور بالغة في التعبير عن المأمول، فالأسهم توضح إمكانية توقف المركبة في حارتها المخصصة بوسط الطريق مع استمرار الحركة في بقية المسارات بكل سلاسة، وأمان، وسلامة، واطمئنان.
​وأتذكر أن إدارة مرور إحدى المدن في اجتماعها مع إدارة مجمع سكني بحجم حي من الأحياء لإحدى الشركات السعودية العالمية، وقفوا على عدد صفر من الحوادث والمخالفات المرورية لسكان المجمع وزوارهم في فترة بعينها؛ في حين أن نفس السكان ونفس الزوار وقعوا في مخالفات خارج المجمع السكني في نفس الفترة!! وما يجعل هذه المفارقة أقرب للمنطق أن جودة تخطيط وتجهيز شوارع المجمع السكني كأني بها تقول للسائقين داخل المجمع السكني تتحداك جودة تخطيطنا أن تقع في مخالفة؛ ولم أستطع التنبؤ بما يقوله من تخطيط وتجهيز شوارع مدينة خارج المجمع، ودون أدنى شك يُفهم من ذلك أن جودة تجهيز البنية التحتية أسهمت في السلامة المرورية بشكل فعال.

مقترح لإدارة المرور:
​أن تضع إدارة المرور معيارًا يواكب 2030 وهو: شرط اكتمال البنية التحتية الداعمة قبل تطبيق أي نظام مروري جديد؛ وبدون هذا المعيار سيصبح الالتزام بأي نظام جديد للمرور تحديًا مشابهًا لتحدي جسور “كونيغسبيرغ” السبعة.. وهو ما يحدث الآن من نظام الالتزام بالانعطافات والالتفافات بدون الأسهم الإرشادية الأرضية.
​وبما أن أحد أساتذة الهندسة بجامعة أم القرى أكد بأن كل هذه الأمور يتم تدريسها في منتصف المرحلة الجامعية للمهندسين، وبكل تنوعاتها وتطوراتها العالمية!! مما يعني أن كل ما نحتاجه معيار2030 في صناعة القرار وحسب.
​والسبيل الأمثل لصناعة هذه القرارات في ظل توزيع مسؤولية تخطيط، وتنفيذ شوارعنا، وتنظيم سير المركبات عليها؛ هو أن ترفع إدارة المرور مستوى التنسيق الحالي مع جهتي التخطيط والتنفيذ (إدارة الطرق بالأمانة ووزارة النقل) إلى مستوى الكيانات المشتركة؛ بإنشاء مجلسين للتخطيط مستقلين في قراراتهما؛ الأول للتخطيط الداخلي للمدينة (المرور وإدارة الطرق بالأمانة) والثاني للتخطيط الخارجي (المرور ووزارة النقل)؛ بحيث يكون عدد ممثلي المرور والجهة المشاركة متساويًا داخل المجلس وإعطاء صوتين لرئيس المجلس الذي ينتخب لعام واحد من بين الممثلين أنفسهم.

رسم تشبيهي لجسور “كونيغسبيرغ” السبعة

​حينها ربما يتحمل المرور مسؤوليته التنظيمية بمشاركته في صناعة قرارات التخطيط والتنفيذ دون تأخير عن الوقت الذي يدعم تطبيق أنظمته الجديدة، وبذلك لن تكون العلاقة النظامية تنسيقًا بيد طرفٍ واحد مؤثر يتحمل تبعاته المواطن على مستوى جيبه، وعلى مستوى سعادته اليومية التي يفقد جزءًا كبيرًا منها لمجرد قيادته في شوارعنا.

 

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button