بهذه العبارة اختتم الملك المؤسس عبدالعزيز-طيب الله ثراه- رده على الذين يعيبون عليه التزامه بالشريعة الإسلامية مما يعني بقاءه في خندق الأصالة بعيدًا عن المعاصرة، ولم تكن هذه التهمة لتفت في عضده أو تثنيه عن التمسك بالشريعة أو تمنعه من السعي نحو التقدم والنهوض، حيث رد قائلًا: “أما الدين فو الله لا أغير شيئًا مما أنزل الله على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا أتبع إلا ما جاء به، وليغضب علينا من شاء، وأما الأمور العصرية التي تعيننا وتفيدنا ويبيحها دين الإسلام فنحن نأخذها ونعمل بها ونسعى في تعميمها ولا مدنية أحسن من مدنية الإسلام” تطبيق الشريعة، السنيدي، ص298. وبهذا الفقه السلفي منه -رحمه الله- للشريعة الإسلامية يبعث برسالة مفادها أن أحكام الشريعة إنما جاءت بمنهج تشريعي يلبي كافة جوانب الحياة، بعضها جاءت أحكامه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، والآخر جاء به الوحي في صورة مبادئ عامة، ورسم خطوطه الأساسية، وفسح المجال للعقل والتجربة البشرية أن يجدد في صوره بحسب تطوره الحضاري وقدراته المادية والفكرية باعتبارها الدائرة الأعرض؛ فهي لو جاءت مفصلة لوقع الناس في حرج بيِّن يلزمهم الوقوف عندها لا يحيدون عنها.
واليوم ونحن تحت راية الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان- حفظهما الله- تستجيب المملكة بشكل متسارع للتغيرات العالمية والدولية، الأمر الذي كان محل إشادة من الجميع فقد أخذت التحديثات شكلًا متميزًا، ولبست حلة جديدة من حيث تصنيفها، ومن حيث حفظ الحقوق والرفع من سقف الضمانات المقررة شرعًا ونظامًا؛ وذلك بعد كشف سمو ولي العهد عن عزم الدولة “استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان، وتحقّق التنمية الشاملة، وتعزّز تنافسية المملكة عالميًا ..”. 26 جمادى الآخرة 1442هـ . “واس”.
هذه المواكبة السريعة للمتغيرات تقدم إطارًا تفسيريًا للافتراق بين الفقه الموافق لأصول الشريعة وأحكامها وبين الفقه المبني على الجمود على المنقولات، وبالتالي توقف عجلة التنمية والتطور بحجة قفل باب الاجتهاد، ومن جهة يفسح المجال أمام المشككين في قدرة التشريع على مواكبة المتغيرات والظروف.
واتجاه الدولة نحو هذا التغيير آت في الأساس من مرونة أحكام الشريعة وقدرتها المتجددة على مواجهة التطورات والتغيرات، وليس كما يصورها أعداء الشريعة وبعض المنحرفين أو المتزمتين من أبنائها نظامًا عفاه الزمن، وأثقلت كاهله عشرات القرون، ووجه المرونة أن الدائرة الأوسع “المتغيرات” نزلت معللة مربوطة بأسبابها، وقد تكون العلة مما أخبرنا الشارع به أو قد تكون مما تدركه العقول بالاجتهاد، فهي أحكام مبنية على مصلحة عامة للمجتمع أرادها الله -عز وجل-، وعلى الحكام والفقهاء التنقيب عنها وجلبها فأينما وجدت المصلحة فثم شرع الله.
وفي هذا إرشاد من الشارع إلى أنه ما شرع الأحكام لمجرد التعبد بها وإخضاع المكلفين لسلطانها، وإنما شرعها لمصالحهم التي اقتضت تشريعها، فتلك المرونة هي بمثابة تجليًا لقوة الشريعة لا لنقصها إذ تسمح بتكييف المبادئ مع الواقع المتغير مما يضمن استمرار حياتها ومرونتها، وبإمكان السلطة التشريعية “التنظيمية” أن تتدخل لتنظيم المصالح وتحقيقها، ومن شأنها أيضًا أن تضع حلولًا عملية لتلبية الحاجات المجتمعية المتغيرة، فأحكام الشريعة المتغيرة متناغمة مع المتغيرات من حولنا كما أنها رافضة للجمود، وتعده من قبيل الضلال في الدين، يقول القرافي في الفروق:”.. والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين..” 1/177. فمبنى الشريعة الأصل فيه جلب المصالح ودرء المفاسد في العاجل والآجل، ذلك أن “كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة .. بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر” ابن عابدين- 2/125 “.
ولكيلا يقع انفصال بين الأحكام وشؤون الناس ومصالحهم، وغاية الدولة اليوم أن تبقى الشريعة مطبقة في حياة الناس، فلا عبرة حينئذ بمن يزعم مصادمة هذه القواعد للنصوص، بل هي علاج تشريعي اقتضته أحوال المجتمع، وحاجاته، وإمضاء لسنن التغيير وتحقيق خلافة الله في الأرض.
أنهي حديثي بكلمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان- حفظه الله- قرر فيها مبدأ ساميًا لا يقل أهمية عما رد به الملك المؤسس-رحمه الله- على منتقديه، يقول فيها: “إن من يعتقد أن الكتاب والسنة عائق للتطور أو التقدم فهو لم يقرأ القرآن أو لم يفهم القرآن.” جريدة الرياض، العدد 13460.
——————
دكتوراة في الشريعة والقانون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وفقكم الله د. أحمد.
مقال من أنفس ما قرأت.
الله يجزاك خير اخي المبارك والشكر موصول لاخي عبدالله الزهراني رئيس التحرير ..