عَرَفْتُ الشَّيخ الوجيه عبد الرَّحمن عمر خيَّاط عام ١٤٢٤هـ، في أثناء عملي في وزارة الحجّ وترؤُّسي تحرير مجلَّة الحجّ والعُمْرة، ثُمَّ اتَّصلتْ أسبابي به وقويتْ، طول هذا العهد، حتَّى وافاه أجله أمس الاثنين الرَّابع والعشرين مِنْ شهر رجب لسنة ١٤٤٢هـ. التقيتُه في أثنائها مَرَّاتٍ عِدَّة، لكنَّه، وهو الكبير في السِّنِّ والوجيه في المقام، اعتاد أن يكرمني، بين حينٍ وآخر، باتِّصالٍ هاتفيّ، وكان له – رحمه الله – عادةٌ لمْ يتخلَّفْ عنها أبدًا، هي أن يكون اتِّصاله، مَرَّةً، للسُّؤال عن الحال، حتَّى إذا اطمأنَّ عليَّ، ودَّعني بعباراتٍ كُلُّها دعاء وابتهال إلى الله – تبارك وتعالَى – = ثُمَّ يبدو له، مَرَّةً، أن يجعل اتِّصاله تحاوُرًا طويلًا، إذِ اتَّفقَ له أنْ قرأ مقالًا نشرتُه في صحيفةٍ، ويغلب أنْ تكون صحيفة مكَّة (الورقيَّة)، فيختصُّني بتعليقاته الثَّريَّة النَّافعة، وقدْ يحلو له أن يطوف بي في ذكرياته القديمة في مكَّة المكرَّمة – حرسها الله – وما تختزنه ذاكرته القويَّة عنْ رِجالها، وعلمائها، وأدبائها، ثُمَّ يأخذ بي في حديثٍ ماتعٍ شائقٍ عنْ عمله في دواوين القضاء، واتِّصاله بالقُضاة والجِلَّة مِنَ المشايخ، وكان الرَّجُل عذب الحديث، خفيض الصَّوت، سمحًا، متواضعًا، كما كان متحدِّثًا لبقًا، وكاتبَ مقالةٍ هاويًا، ينفح الصُّحُف، حينًا بعد حينٍ، بمقالاتٍ قصارٍ تنطوي على طرائفَ مِنَ التَّاريخ الاجتماعيّ والثَّقافيّ للبلد الحرام، وخاصَّةً ما رآه وما سمعه.
على أنَّ الوجيه – رحمه الله – وإنْ أنبأَنا سَمْتُه وهيئته بأنَّنا في حضرة رجُلٍ مسكونٍ بالحارة؛ خَبَرَ بيوتها، وجال في أزقَّتها، واعتمَرَ العِمامة المكِّيَّة = فلقدْ كان، كذلك، مثقَّفًا عميقَ الثَّقافة، مهما بدا لنا إنسانًا شعبيًّا؛ تختزن ذاكرته مِنْ محفوظ الشِّعْر قَدْرًا صالحًا، خاصَّةً ذلك الَّذي يَحْسُن للتَّمثيل والمحاضَرة = سريع البديهة، حديد الذَّاكرة، يُحَلِّي كلامه بآيٍ مِنَ القرآن الكريم، وأحاديث النَّبيّ المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم – والحِكَم والأمثال، عارفًا بالكُتُب، ولا سيَّما تلك الَّتي تتَّصِل ببلدته مكَّة المكرَّمة؛ تاريخها، وثقافتها، وأخبار رجالها المبرِّزين.
كان الشَّيخ عبد الرَّحمن نمطًا فريدًا مِنَ الرِّجال، وكُنْتُ أرى فيه الصُّورة الأخيرة لابْن الحارة المكِّيَّة؛ أدرك مِنْ تاريخها المتأخِّر ما لمْ يُتَحْ لغيره، وكان شاهدًا على عصرٍ مهمٍّ كانتْ مكَّة المكرَّمة فيه هي العاصمة السِّياسيَّة والإداريَّة والثَّقافيَّة للبلاد، فإذا انطلق في ذكرياته فإنَّما يحدِّثك حديث العارف بالأمكنة والأزمنة والرِّجَال، على أنَّ أهمَّ ما كان يلفتني في أحاديثه إدراكه معنى العَيْش في مكَّة المكرَّمة، والمقام إلى جوار البيت العتيق، فإذا انتهَى إلى هذه الغاية تَهَدَّجَ صوته وخَشَع، وخَتَمَ كلامه بهذه العِبَارة المؤمنة السَّمحة الَّتي طُبِعَتْ في ضميري فلسْتُ أنساها: “اللَّهُمَّ ارزقنا فيها جميعًا حُسْن الأدب”!
رحم الله الشَّيخ الوجيه عبد الرَّحمن عمر خيَّاط وغفر له.
0