تبقى المدن الإنسانية حلمًا أزليًّا في أذهان المُفكرين والفلاسفة قديمًا وحديثًا فهي: تلك المدن التي تقوم على روح التعاون، وبث السعادة في النفوس من خلال تحويل الجمادات إلى رؤية بصرية ذات أحاسيس، ودلالات معنوية؛ وكأنها ذلك الجسم الصحيح الذى تتعاون كل أعضائه في سبيل حياة الجسد والمحافظة عليه، وقد نقل لنا تلك الرؤية المستقبلية الفيلسوف العربي (الفارابي) في كتابة المدينة الفاضلة الذي اشترط فيها أن تكون مبنية على العلم والمعرفة والأخلاق، من أجل تحقيق الكمال والسعادة لساكنيها.
وقد لاح في الأفق خلال السنوات القليلة الماضية مصطلح ما يسمى بأنسنة المدن الذي بتنا نسمعه في معظم دول العالم مع العلم أننا عندما ندقق في هذه المفردة؛ فإننا سنجدها أشبه ما تكون بالسهل الممتنع؛ خاصة في المدن القائمة منذ عشرات السنين؛ و ذلك بسبب تصاميم تلك المدن التي تجاهلت الإنسان، وصممت لخدمة التنافس العمراني وتعبيد الطرقات، وزيادة عدد المصانع والمنشآت.
فبات هذا المصطلح في المفهوم الحديث لا يتعدى حدود إيجاد أماكن للمشي، ورصف للطرقات، وقوالب جامدة في كل الاتجاهات؛ وكأن المدينة ليست إلا بعدًا ماديًّا يتمثّل في شارع عريض وناطحة سحاب لا معنى لها، ولا روح فيها ولا تفاعل أو تواصل اجتماعي للإنسان في الفراغات بين جماداتها.
لذلك فإننا إذا نظرنا إلى مدننا من بعيد نراها جميلة ومبهرة، وكأنها صرح بلقيس الزجاجي إلا أننا عندما نقترب منها لا نستدل على أي تفاصيل لهذا الجمال؛ حيث تأثرت بخدعة نظريات الحداثة في التخطيط العمراني التي استلهمت مفاهيمها من التصاميم الغربية التي لا تمت إلى بيئتنا، وعاداتنا، وتقاليدنا بأي صلة، ولم تراعِ مقومات تاريخنا وحاضرنا فكان لهذه التصاميم دور كبير في اختفاء الارتباط الحسي والمكاني بين الإنسان والمدينة.
فأصبح الإنسان في مدننا يعيش بدون جمال يصادقه، ولا راحة يرافقها ولا تاريخًا يتأمله، وباتت مدننا تفتقر إلى الأسس الضرورية للحياة كالتواصل الإنساني والراحة والجمال؛ فانتشرت العادات الاجتماعية السلبية والأمراض المزمنة التي ظهرت؛ نتيجة لتلك التصاميم الجامدة.
و خلاصة القول، إنه بات من الضروري الاتجاه إلى إنشاء مدن إبداعية، تختلط فيها الثورة التقنية العصرية بموروث المدن، وتحافظ على ذاكرة وهوية المكان، بحيث تفي بمتطلبات الإنسان بداية من احتياجاته الجسدية؛ وانتهاء بتحقيق احتياجاته الفكرية والنفسية فى مكان سكنه ونطاقه العمرانى، وكذاك إعادة هيكلة مفهوم الحياة في المدينة، حتى لا تكون مدننا مجرد “كتل خرسانية”، لا نبض فيها بل تساعد على الارتقاء بحياة الإنسان وفكره وتغذي روحه، وتلامس حواسه الخمس بدون ملوثات بصرية وسمعية إذ إن أحد عوامل نجاح الأنسنة يتمثل في موازنة التقنيات مع احتياجات الإنسان؛ للوصول إلى جودة الحياة.
وخزة قلم :
مقاييس الأنسنة يجب أن تختلف من مدينة لأخرى طبقًا لطبيعتها، وموروثها، وعادتها، وتقاليدها.
لعلك تقصد في مقالك الإشارة إلى ما يسمى في المصطلح الحديث بالمدن الذكية
اكثر ما فقدن من المعمار الحديث ونمط اتمدن الجديث كما اشرت إليها وهو الأخلاق .. هناك نظرية افتراضية ان كلما اترقت المدنية انهار الأخلاق لدا الإنسان وهذه ضريبة التمدن بشكلها الحديث ..
جميل أستاذي
منذ ركب الإنسان السيارة لم يعد يتفاعل مع محيطه مقارنة بما كان عليه حين كان يمشي أو يركب الدابة فكل ما يمر به في طريقه يمثل حدث و معلومة كان يقف عند شجرة ليتذوق ثمارها و يشم نباتًا بريًا فينتشي برائحته الجميلة و كان ينام في ضل شجرة فينعم بالضل بعد أن اكتوى بأشعة الشمس و منذ ركب الغمارة في السيارة عزل نفسه عن محيطه و سبب ذلك فراغ في مشاعره و تجاربه و خبراته و أصابه الضجر و الملل كالطفل الذي حرم من حضن أمه