الكتابة عن الجنود المجهولين واجب إنساني، ولمسة وفاء يستحقها هؤلاء الجنود العاملين بصمت وبدون ضجيج، والذين عادة لا نلتفت لهم، ولا إلى جهدهم الكبير، والمهم في الوصول إلى معزوفة النجاح لأي إنجاز يتحقق على أرض الواقع، ونصفق له طويلًا، ولولا وجودهم وأدوارهم المهمة، والمتعددة، والمتنوعة لما أمّكنَ لأي قيادي أو مسئول أن يحقق الكثير من الإنجازات التي يفاخر، ويعتز بها خلال مسيرته العملية.
بدونهم لا عمل يتحقق، ولا نجاح نصل إليه، فهم دائمًا وقود الإنجازات، ودينامو المحركات والمهمات، والجنود الموكلون لتجاوز العقبات.
هؤلاء الجنود صحيح قد يعتقد، ويظن البعض خطأ أن أدوارهم قد تكون بسيطة ومحدودة وصغيرة إذا ما قُورنت بغيرهم من القياديين والمسئولين الذين يتولون إدارة الشركة وقطاعاتها المختلفة، لكن من المؤكد أن العمل لا يمكن أن ينجز أو يتحقق أبدًا من دون وجودهم، وإبداعهم، والتزامهم، وتعاونهم، ومشاركتهم، وعملهم القريب مع صانعي القرارات، واهتمامهم بالتفاصيل التي لاغنى عنها في تنفيذ الأعمال، ويستحقون منّا جميعًا كل الشكر، والتقدير، والود، والاحترام.
من هؤلاء الجنود المجهولين الذين نعرج إليهم، ونضيء اليوم في مقالتنا عليهم، ونسلط الضوء على جزء بسيط من مسيرتهم الرائعة، وتاريخهم المليء بالتضحيات، والعزيمة، والإصرار، والعمل الجاد، والمخلص لخدمة الخطوط السعودية هي الراحلة السيدة (مي إلياس عيسى).
سيدة لبنانية فاضلة، ومحترمة خدمت السعودية بإخلاص منقطع النظير يذكره كل من عاصرها طوال خدمتها المتواصلة التي امتدت ٤٠ عامًا، ويشهد لها الكثير على حرصها، وجهدها المستمر، وتضحيتها بوقتها الخاص، وغربة الأوطان، والابتعاد عن أجواء الأسرة عشقًا وحبًا لهذا الكيان الغالي الخطوط السعودية.
التحقت هذه اللبنانية المنشأ السعودية الهوى، والمبدعة الأداء، والمتألقة العطاء، بالخطوط السعودية في أواخر عام ٦٣م، وغادرت موقعها في الخطوط السعودية بعد رحلة عطاء طويلة في نهاية عام 2002م.
واجهت في حياتها العملية مواقف وظروف خطرة ومحرجة إلا أن الإرادة الصلبة، والشجاعة، ورباطة الجأش التي كانت تمتلكها كان خير معين لها في مهمتها.
أحد هذه المواقف الصعبة كان في رحلة جوية بطائرة الكونفير (Convert)، والتي كانت تقل شخصية مهمة وسياسية كبيرة متجهة من جدة إلى الرياض، وعندما حلقت الطائرة في الأجواء سألها تلك الشخصية الإنسانية الهادئة والرائعة بكل تواضع وطيبة هذا البلد المعطاء ماذا تقدمون لديكم من طعام على هذه الرحلة؛ فسقط في يدها وتلعثمت واحتارت ماذا تقول، وكيف تتصرف؛ حيث كان من سوء الحظ أن لم تحمل هذه الطائرة أي مؤنة في تلك الرحلة بسبب خطأ واجتهادات لا ذنب لها فيها، فأجابت للأسف لا يوجد على الطائرة أي طعام؛ فطلب منها أن تُعد له قدحًا من الشاي فاحمر وجهها خجلًا، وقالت لا يوجد يا سيدي حتى ماء على الطائرة لا يوجد غير الصحف المحلية، وأحضرتها مسرعة، وهي تتصبب عرقًا.
وبهدوء واحترام أدخل الراحة والطمأنينة إلى نفسها، سألها تلك الشخصية المهمة هل أنتم صائمون؟ قالت: لا ولكن الوضع كما ترى ياسيدي أقدم لكم شديد اعتذاري وأسفي.
وحين علمت أن هذه الشخصية السياسية الكبيرة هي الراحل الملك فيصل -رحمه الله- عليه.
دارت الدنيا في وجهها، وخشيت أن تتعرّض إلى مشكلة، ودعت الله أن يخلصها من آثار، وتبعات هذا الموقف الصعب الذي وجدت نفسها فيه، ولا تعرف إلى أين تتجه الأمور؟
هبطت الطائرة في مطار الرياض، وعند مغادرة الملك للطائرة طلب منها ومن طاقم الطائرة عدم المغادرة حتى يسمح لهم؛ فخافت، وتخيلت أنها، ومن معها سيتعرضون لعقاب قاسٍ وشديد لكنها لم تكن تعلم أن حكمة ذلك الملك العظيم، وبُعد نظره وحلمه وهدوءه المعهود تفوق الوصف والخيال.
وماهي إلا ساعة من زمن، وإذا بصواني الأكل مما لذ وطاب تصل إليهم في الطائرة بناء على أمر الملك ثم سمح لهم بالمغادرة.
كانت رسالة بالغة التأثير من ملك كريم تعبر عن الطيبة والتواضع التي جبل عليها هذا الوطن وقيادته الحكيمة والتجاوز عن الأخطاء بعد استيضاح الأسباب إذا كانت غير مقصودة.
كانت هذه السيدة الفاضلة موسوعة الخدمة الجوية، والعمليات وكمبيوتر الزمن الجميل الذي كان يختزن كل شيء في ذاكرتها، التي كانت تُقارن بما نعرفه اليوم بذاكرة الكمبيوتر، لقد كانت حقًّا هذه السيدة حالة فريدة لم تتكرر، فقد كانت تعرف أسماء الملاحين جميعًا، وأرقام سجلهم الوظيفي عن ظهر قلب.
ومن غرفة صغيرة في إدارة الخدمة الجوية، كانت تدير مسئولياتها التي تتضمن عمل وتنسيق جداول الملاحين مع الإدارات ذات العلاقة لكافة القواعد والمحطات الداخلية الخارجية التي أنشأتها السعودية في عدد من الدول مثل: (أثينا، ولندن، باريس، ونيويورك، وبيروت، والقاهرة، وبومباي)، كما كانت مسئولة عن تحويل المضيفين والمضيفات من وإلى محطاتهم التي يتبعونها، وأيضًا جدولة جميع أنواع التدريبات المختلفة لكل فئات الملاحين، ومع أن كل هذه الأعمال كانت تشرف عليها وتعملها بدون كمبيوتر في البدايات إلا أنها كانت دقيقة جدًّا في عملها، ولم يتقدم أحد بأي شكوى عن عملها أو أي خطأ حصل منها فكانت محترمة من الجميع، ويعمل لها ألف حساب لجديتها، والتزامها، ودقة عملها.
يقول أحد المسئولين الذين عملوا معها:
(لم أتذكر بأنها مرضت أو تمارضت يومًا إلا مرة واحدة طوال عمرها مع السعودية، وأرسلت إلى الخارج للعلاج لخطورة حالتها، وكانت غير مرتاحة، وترغب في العودة للمملكة بسرعة؛ فقد أصبحت السعودية حياتها وعملها، وشغلها الشاغل الذي تحبه وشغفها الدائم ليلًا ونهارًا).
كانت السيدة (مي عيسى) شخصية استثنائية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وكانت طوال سنين عملها الرائع شخصية، ويعرف مكانتها، ودورها الحيوي، والمؤثر الطيارين والملاحين جميعًا.
وكان من ضمن مسئولياتها أيضًا التدريب لكل المسئولين عن مراكز الخدمة الجوية في الداخل والخارج، وكانت تشارك في السفر لإحضار الطائرات الجديدة، والتدرب على الخدمة عليها، ومن ثم تدريب المضيفين والمضيفات على الخدمة على تلك الطائرات.
تعرضت في عملها لعددٍ من التجارب القاسية، والمواقف، والحوادث الصعبة التي نجت منها بعناية الله ولطفه.
ففي عام 1965م، وفي رحلة السعودية على متن طائرة من طراز 707 متجهة إلى جنيف، وكان قائد الطائرة هو الكابتن (بغلير) تعرضت الطائرة فجأة لعاصفة جوية شديدة، قلبتها رأسًا على عقب، وتطايرت عدة أشياء داخل الطائرة من قوة الاهتزازات والمطبات الجوية، ولكنها بحمد الله تمكنت أن تُعيد توازنها إلى أن حطت بسلام..
وفي حادثة خطيرة، واجهت رحلة على متنها يوجد مدعوون لتدشين افتتاح محطة السعودية في فرانكفورت من بينهم صحافيون، ومثقفون، ورجال أعمال، أجواء سيئة للغاية، وبدأت أغراض المطبخ بالتطاير، الصحون والأكواب، وحتى بعض الأشخاص الذين لم يكونوا رابطين أحزمة الأمان.
وبفضل الله تمكن قائد الطائرة بجهد كبير من الهبوط بالطائرة، والمحافظة على سلامة الركاب…
وحين هبطت الطائرة كان الثلج يغطي المدرج بكامله، نزل كابتن الطائرة، وقبّل الأرض..يومها أحرقت الصواعق جسم الطائرة.
وفي حرب اليمن، على متن طائرة من نوع DC6، التي تتسع لحوالي100راكب، كانت السيدة (مي) من ضمن طاقم الخدمة الجوية الذين عملوا على إحضار الجرحى لعلاجهم في المستشفيات.
وفي موقف طريف خلال رحلة داخلية بين جيزان وجدة، ساعدت السيدة (مي) امرأة فاجأها المخاض في وضع مولودها على الطائرة.
مواقف رائعة، وقصص ساطعة بالتضحيات لرحلة عطاء، وسيرة كفاح السيدة اللبنانية الراحلة (مي إلياس عيسى) التي خدمت الخطوط السعودية بكل صدق وتضحية ووفاء وعاشت عمرها الذي قضت معظمه في خدمة السعودية بلدًا وشركة طيران وطنية، ولا نملك إلا أن نقول لها بصوت أرجو أن يسمعه كل اللبنانيين والوطن العربي، وعسى أن يسمعه أهلها اليوم بعد رحيلها من هذه الدنيا بعد مرض عضال أننا نفتخر بعطائك، ونعتز بعملك ونقدر جهدك وأداءك الرفيع، ونحن سعداء ياسيدتي بأنك كُنّتِ يومًا تعملين بيننا في الخطوط السعودية، وبما قدمتِ من عمل مشرف لازال يذكره بكثير من الاعتزاز الزملاء والزميلات الذين عملوا معك، وعاشوا زمنك.
وستظل الخطوط السعودية خليطًا ومزيجًا فريدًا ورائعًا ومتجانسًا ومتنوع من ثقافات وشعوب عديدة من البشر يعلمون فيها بكل حب وتناغم لخدمة ضيوفها الأعزاء داخل الوطن وخارجه والسعودية، تفخر بأبنائها وبناتها العاملين معها في كل مكان، وأنت إحدى بناتها المخلصات التي نلت التكريم من أعلى قيادات الشركة نظير عملك المهني المحترف، وإخلاصك وحبك للسعودية.
مجهودعظيم قامت به وبصمة جميلة تركتها وذكرى لاتنسى رحمها الله تعالى ..ووفاء منك ان تكتب عنها وتذكر ماقامت به جزاك الله خيرا
ما اجملك وانت تشيد وتذكر بخدمات وابداعات الزميله مي رحمها الله وهذا وفاء وتقدير يتعدى الحدود الى تكريم كل من عمل مع الخطوط السعوديه بغض النظر عن جنسيته وهويته ومعتقده .
تلك لفته كريمه وتسجيل عرفان لكل من ساهم وعمل وتفانى في خدمة هذه المؤسسه العظيمه وما قمتم به استاذ حسن هو ايضا عمل عظيم في تقدير الرواد ولعل نجد الفرصة يوما لتقدير ما تهتم به اضاءات لنشعل لك اضاءه تليق بجهدك
? ما اجمل الكتابة عندما توقظ حروفها المضيئة الذاكرة على مساحات واسعة من الأمكنة والأزمنة عبر اختيارات موثقة لشخصيات من طراز رفيع عملت في مجالات مختلفة ومتعددة من الأعمال شديدة ااغنى والتنوع.. ولديها قدر كبير من إنكار الذات وعشق المكان والذوبان في العمل..
? لقد احسنت الاختيار للكتابة عن السيدة مي عيسى التي تحتل مكانا فريدا من المحبة والاعزاز لدى الكثيرين ممن عرفوها وعملوا معها وعملت معهم..بالخطوط السعودية..
لقد جاءت كلماتك شهادة حق عن هذه السيدة المحترمه الصلبة التى عملت خلال فترة ثرية من تاريخ الخطوط السعودية منذ مطلع الستينيات الميلادية وفي مجال كان الإقبال على العمل فيه صعب للغاية.. ولكنها اقتحمته بكل قوة وشجاعة وعزبمة وصبر..فأصبح بالنسبة لها على مدى أربعون عاما هي مدة خدمتها بالخطوط السعودية..هواية وعشق يدفعها إلى مزيد من العمل الجاد والمثمر والمخلص..
ويكفي السيدة مي عيسى أنها قدمت للخطوط السعودية اجيالا من طواقم الخدمة الجوية الذين يتذكر الكثير منهم اليوم هذه الانسانة الرائعة..