المقالات

ثقافة القطيع!

من المفاهيم التي سادت وينبغي أن تراجع وبصحّح سياقها مفهوم “القطيع” الذي تنسب إليه ثقافة السائد والمكرور. ما القطيع؟ وما السائد؟ وكيف نخرجهما من النسبية؟.

أعتقد أن اشتغالنا على تصحيح هذه المفاهيم وإعادة تأثيلها من جديد هو ما يمكن أن نحصّن به شبابنا وشابّاتنا من الانخطاف وراء بريق مصطلحات ومفاهيم الموضات الثقافية؛ فقد بدا لي من قراءات مختلفة هنا وهناك أن التسطيح المعرفي الذي نعيشه اليوم في واقعنا الراهن، سببه المداخل المعرفية، فهي أشبه ما تكون بالكافيهات والمقاهي الشعبية. لا أحد يذهب إلى كراسي الخصف من الجيل الجديد، وهذا الأمر ينسحب أيضا على الشأن الثقافي، فالشاب اليوم لا يمكن أن يفهمك أو حتى يتقبّلك ما لم تطرقع له بشيء من لبانة المصطلحات الحديثة.

ومن جهة ثانية فثمة حاجز نفسي يفصل الشاب عن موروثه حين يجده موسوما بثقافة القطيع، أو المكرور السائد، والواجب علينا تحرير هذه المصطلحات من جديد ونقلها إلى سياقها الصحيح حتى نربّت على أكتاف الشبّان المرعوبين من السير خلف القطيع، أو ننبّههم إلى أنهم ربما ساروا مع القطيع دون أن يشعروا، فيما هم يظنون أنّهم متفرّدون خارج المكرور والسائد.

ولتحرير هذا المفهوم الإشكالي، ونزعه من سياقه القديم، يسعني القول إن للثقافة مسارين، عميق وسطحي، فالثقافة الفطرية مثلا، ثقافة تعتمد على المكونات والمرتكزات التي تولد مع الإنسان، ولها اتصال وثيق باللغة والدين والمنشأ، وهذا هو المسار العميق، أي البنية العميقة التي لا يصحّ وصفها بثقافة القطيع كونها ثقافة راسخة تم عليها بناء الإنسان، ويتم صقلها وتمحيصها عبر التجارب الحياتية والمعرفية، وهي ثقافة عميقة لا تقوم على أساس رغبة الجماهير والسير وراء الجموع.

أما المسار الثاني، فهو السطحي، وهو بهذا الاعتبار قابل للحشد، كما هو قابل للاختيار الواعي، وهذا المسار يؤثّر فيه الإعلام بدرجة كبيرة، بل يرسم له طريقه واختياراته.
ويعدّ الإعلام هو “المرياع” الذي يجلجل لأفراده لحشدهم في مسار قطيعي لا سعة فيه للتمحيص والنظر، ومن هنا تبدأ ثقافة القطيع، والمكرور، والسائد، ذلك أنّ هذه الأوصاف لا تتم إلا من طريق التكريس الإعلامي لظاهرة ما، يتم لها حشد قطيع، يكون في البداية قليلا، ثم يكثر مع التكرار، حتى يسود، فتتحوّل بذلك الحادثة إلى ظاهرة.

إذًا، لا علاقة لثقافة القطيع بالثقافة الراسخة، أو بالمكوّنات الثقافية الأصيلة، حتى وإن كانت مكونات خاطئة، ذلك أنها لا تتم بحشد، وإنما من طريق التنشئة، في حين تبدو كل ثقافة، أو ظاهرة ثقافية، يتم التسويق لها إعلاميًّا ،من صميم ثقافة القطيع، ذلك أنّها تتم من طريق التصويت بالمرياع لجمع ما تفرّق في حشد لا يعي سوى أنّه تابع للظاهرة الإعلامية بلا فحص ولا نظر!

ومن يقرأ كل حالة ثقافية تحدث حولها ردود أفعال يجد أن الناس غالبا يسيرون في ركاب الأغلبية التي يصنعها الحدث، أي أنّهم يتمثّلون حركة القطيع في سيره خلف صوت المرياع، وبذلك يظهر أن الذي يصنع ثقافة القطيع هو الإعلام، أو السائد الثقافي من منظور إعلامي، وليس هو الراسخ من الثقافة العميقة، كما يظنّ الشبّان المخطوفون ببريق المصطلحات والمفاهيم الحديثة!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى