مشعل حاسن الحارثي

كيف أصبحت قاتلًا ؟!

كنت طالبًا مجتهدًا، أطمح للعُلا في لحظة غضب وطيش نشبت مشاجرة بين زملائي

فأصبحت قاتلًا !!
في تلك اللحظة المشؤومة بدأت معي رحلة الضياع، نسيت معها كل سُبل الإمتاع كبلوني بالأغلال، واقتادوني إلى السجن ! كل يوم وليلة لا أسمع سوى هذا السؤال ..
لماذا قتلت ؟ وكيف قتلت ؟
فأجيبهم .. هاااه .. لا … أدري!!
أنا لست كاذبًا!!
فأنا حقًا لا أدري كيف قتلت ؟ ولماذا قتلت ؟
أضحى الخوف والوجل يقضّ مضجعي، ويراودني في كل حين، أجلس مكبلًا بالأغلال منحنيًا ورأسي بين ركبتي…
وقد اغرورقت عيناي؛ لأني لم أعد أقوى على البكاء من كثرة البكاء !
تغير مجرى حياتي، وتعطلت كل قدراتي، أقبع جُلّ وقتي في زنزانة صغيرة، أشاهد الموت يمر بجانبي في كل وقتٍ وحين، غاب عني أصدقائي، أنظر إلى وجوه ليست كتلك الوجوه، وأسرتي أضناها التعب تحاول مرة تلو الأخرى مع أولياء المقتول؛ كي تنقذني من حد السيف لكنهم في بادئ الأمر رفضوا، بشدة، وهذا حق مشروع لهم فأنا قاتل !
ولكن التوسلات لم تهدأ، منهم من يُريد عتق رقبتي، ومنهم من كان مرتزقًا يقتات من قضيتي !
كانت تلك التوسلات اليائسة تجعلني أعيش تارة ..وأرى الموت يدنُ تارة أخرى تراودني هيبة السيّاف حتى في منامي !
بعد إلحاح وإصرار وجاهة تلو الجاهة، طلب أولياء المقتول عشرات الملايين، وأنا خلف القضبان لا أملك سوى ما يُغطي جسدي.
كأن حالهم يقول مت بغيظك قبل أن تموت بحد السيف.
تارة أرى بارقة أمل، وتارة أخرى أرى الموت يقترب مني حتى في مرقدي.
حياتي أصبحت رهينة بين سندان السيف ومطرقة الملايين المشؤومة !

أخذت أسرتي تجوب الصحاري والقفار، تطلب بماء وجهها وتجمع المال الذي سينقذني من القتل.
حينما باءت محاولاتهم بالفشل، ولم يجدوا سبيلًا لجمع المال، تسابق السماسرة والوسطاء، وخفضوا جزءًا الدية المطلوبة علهم يظفرون بشيء يسير، وأن لا يخرجوا من قضيتي بخُفي حُنين.
حينها شعرت أن الحياة ستعود لي مرة أخرى، ولكن هيهات فقضيتي خاسرة؛ لأن ماطلبه أهل القتيل من قبل يعادل حمل بعير.
أصبح الموت يعود لي من جديد، ويقترب مني خطوة أخرى.
في أحد الأيام سمعت صوتًا ينادي من بعيد يا “..” أخرجت رأسي من بين القضبان، وأنا في ذهول، ويداى ترتعشان لعل من يُنادي يأتين بنبأ يقين ..
فتحوا عني زنزانتي، واقتادوني إلى غرفة مجاورة ناولوني ورقة وقلم، طلبوا مني أن أكتب وصيتي، ويدي ترتعش خوفًا ووجلًا ..
وأنا أتصبب عرقًا أشم رائحة الموت تحت قدمي.
وقع القلم مني على الأرض؛ فكتبوا عني وصيتي !!
ولما هممت بالخروج أعطاني أحدهم مصحفًا وسجادة، حينها أيقنت أن نهايتي قد دنت، أعادوني إلى زنزانتي، وأنا على المسير لا أقوى أستند على كتف السجانى وقدميّ أجرّها خلفي !!
بتُّ تلك الليلة، وأنا على المبيت لا أقوى كيف يغمض لك جفن والسياف مني يدن ؟
كل المحاولات باءت بالفشل، ولكن أملى بالله لم ينقطع، أُراقب الصباح حتى أشرقت الشمس،
وليته لم يُشرق ذلك اليوم أخذ السجناء يودعونني، ظنًا منهم أنني لا زلت حيًا !!
وأعي مشاعر الوداع ..
سقطت على الأرض فحملوني بين أيديهم، فتحوا لي أبواب سيارة مصندقة فعرفت أنها هي التي ستأخذني الى ساحة القصاص …
لمحت خلفها سيارة إسعاف فأيقنت أنها هي التي ستنقل جثتي ..
أركبوني عنوة، أغمضوا عينيّ، وهم لا يعلموا أنني لا أبصر من كثرة الحزن.
كانت رحلة المجهول وتسابق الخطى من السجن إلى ساحة القصاص مليئة بأقسى أنواع الخوف والفزع !
أنزلوني، وأنا أتشبث بالأرض، وأعود للوراء؛ لأن شعوري بالخوف والوجل قد بلغ منتهاه، كان هناك صمت مخيف، لا أسمع سوى صوت الأقدام وهمس بين الناس، وجلجلة السلاسل وصليل السيف ينتظر عنقي !
وكأن الجميع ينتظر تلك اللحظة التي لا يستطيع بشر وصفها !
أجلسوني على ركبتي في صمت مكبوت دنى السيّاف من عنقي ثم تراجع قليلًا حينها سمعت صوتًا ينادي من بعيد، ويقول: عفوت عنه ..!
هتف الناس، وسقطت على الأرض أزالوا الغطاء عن عيني، وإذا بالسياف يقف خلفي، أجلسوني وأسقوني قليلًا من الماء؛ فعاد الماء إلى الخارج من هول الصدمة ..
ليتهم قتلوني في تلك اللحظة !
فقد مات جسدي، وقُتلت روحي ألف مرة في تلك الرحلة اللعينة قبل أن أصل إلى ساحة القصاص..
لازلت أقضي بقية حياتي مريضًا نفسيًا أهيم على وجهي …من هول الصدمة، وفزع الموت لا تلوموني ….
فقد ماتت كل أحاسيسي ومشاعري وبقي جسدي !
فكيف بجسد بلا روح !!!
قال تعالى:
(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى:40)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ”؛ متفق عليه.

—————————————-

إخصائي نفسي وتأهيل مرضى الإدمان

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button