حسن عطا الله العمري

إضاءات فؤاد محمد أبو الخير

اليوم بكثير من الاعتزاز والفخر أكتب عن أستاذي وأستاذ جيل من الطلبة الذين شاء حظهم السعيد أن يعيشوا زمانه، ويتعلموا على يديه كل المعاني السامية والمُثل الرفيعة الراقية التي تتجلى أمامهم كلما لاح لهم من بعيد هذا التربوي الرائع والمختلف صاحب الوجه المنير والصبوح الذي كان أستاذًا في الأدب والخُلق الرفيع، والالتزام والحرص على أبنائه الطلبة، ويطبق الأنظمة ولا يتجاوزها، ويقف أمامها كالأسد والسد المنيع.

إنه المربي الفاضل الأستاذ فؤاد محمد نور أحمد أبو الخير، رجل الثقافة والأناقة، والحب والخير، والعطاء اللامحدود.
ولد في منتصف رمضان من عام ١٣٥٥هـ، وعاش سنين عمره في جد واجتهاد وكفاح، وعمل دؤوب لايكاد ينتهي حتى يبتدي من جديد.
نضيء اليوم، ونطل بحب وتقدير بالغ على ملامح ناصعة من سيرته العطرة وحياته التربوية الآسرة التي غطت المكان والزمان، لنتعرف على نوع من البشر نذروا حياتهم للعلم والتعليم، وفعل الخير والصلاح فأحبهم الناس حبًا جمًا، وأحبتهم العائلة والأهل أبناء وبنات وأحفاد؛ وبوجوده كانت ولازالت تحلى الجمعة واللمة.
درس وتعلم مراحل التعليم الأساسية في مدارس الفلاح بمكة المكرمة تلك المدرسة التي تخرج منها جيل من المسؤولين الكبار الذين نفخر بهم علمًا وخلقًا وأدبًا وإبداعًا ليس له مثيل، وأصبحوا قيادين يُشار إليهم بالبنان في كل موقع ومكان خدموا به، ونسماتهم ظلت فوّاحة يحملها الهواء العليل.

ونتيجة لنبوغه المبكر وتفوقه تم ابتعاثه لجامعة القاهرة لإكمال دراسته الجامعية في تخصص الجغرافيا، وعاد بعد تخرجه للعمل مدرسًا في ثانوية العزيزية ثم مالبث أن التحق بعد ذلك بالمعهد العلمي بمكة المكرمة تحت إدارة الأستاذ الفاضل عبدالملك ملا ثم انتقل إلى الرياض، وتم تعيينه مندوبًا لوزارة المعارف السعودية للتعاقد في بغداد، واكتسب خبرة كبيرة في اختيار المدرسين الذين كانت المملكة تستعين بخدماتهم للتدريس، ووفق كثيرًا في اختيار أفضل الكفاءات التي خدمت الوطن، وساهمت بجهدها وعملها في نهضة التعليم في بلادنا الغالية.

وفي لحظة تاريخية ومفصلية من حياته المهنية تم اختياره للعمل وكيلًا عامًا لمدارس الثغر النموذجية بجدة، وياله من اختيار حكيم وموفق وسليم، فتلك المدارس كانت جوهرة المدارس ولم تكن مدارس عادية يدخلها من يريد، بل مدارس نموذجية بكل ماتحمله هذه الكلمة من معنى،
ولم تكن مدارس الثغر النموذجية تابعة لوزارة المعارف آنذاك .. بل أن لها شخصيتها الإعتبارية وميزانيتها المستقلة أمر بإنشائها الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله.
طلابها غير، ومن نوع متميز وفريد، وفصولها ومبانيها غاية في الأناقة والفخامة وساحاتها يفوح منها الورد والعبير، وكل شيء فيها يوحي أنه فخم وجديد، لقد كانت حقًا معلمًا حضاريًا كُنا نفخر به أمام العالم ونزهو بها، ونشعر بفرح واعتزاز كبير أننا كنّا من خريجي مدارس الثغر من زمن بعيد.

شاء حظي أن أكون أحد طلابها في المرحلة المتوسطة والثانوية خلال الفترة من ١٣٩٣-١٣٩٨هـ ولمست عن قرب تعامل هذا المربي القدير مع جميع الطلبة بميزان العدل والتقدير، الذي لا يجامل الأمير ولا ابن الوزير والسفير على حساب طالب مثلي من أبناء الطبقة العادية الذين دخلوا هذا الصرح التعليمي فجأة وبضربة حظ ليس لها عندي اليوم تعليل وتفسير.

شاهدت بعيني بيئة علمية ودراسية راقية جمالها منقطع النظير؛ فكل ما يحلم به الطالب أو لا يحلم كان موجودًا بأعلى المواصفات والمعايير، ويحصل عليها دون مشقة وبجهد يسير.
المعلمون كان يتم اختيارهم واستقطابهم من بين أفضل المعلمين بعنايه فائقة، والطلاب يحظون برعاية طبية خاصة، ولهم طبيب خاص له داخل المدارس مكان مخصص وعيادة.

 


وفي حصة النشاط تحتار ماذا تختار هل تذهب إلى غرفة الموسيقى لتتعلم عزفًا منفردًا على العود أو البيانو أو الجيتار تسحرك الحانة، أم تكتفي بالقفز على حصان جميل في نادي الخيل داخل المدرسة يعجبك ألوانه، أم تتناول وجبة الطعام في مطعم المدرسة لأكل صحي لذيذ لاتجد في الخارج شبيهًا لأصنافه.
كل شيء في تلك المدارس كان باهيًا وساحرًا وأخاذًا، وينم عن الفكر التربوي والحضاري الراقي، وعالم يعيش في جو تربوي ساحر وهانء، وكما يقولون على سنقة عشرة، وكان أبو الخير الرجل المناسب في المكان المناسب الذي يرنو ويرجو لأبنائه الطلبة الصعود إلى المعالي.
شديد في تطبيق الأنظمة لكن بحُب يجعلك تخجل من أفعالك.
قريب من الطلبة إلى درجة أنك تظن أنه قد يجاملك لكنه أبدًا لن يفعل إذا كان هذا ضد مصلحتك مهما كانت تبريراتك وأعذارك.
ذات يوم، وفي أول يوم لاختبار الثانوية العامة وبشخصيته القوية التي تملأ المكان ونظرته الفاحصة الثاقبة اكتشف أثناء جولته على إحدى لجان الاختبار النهائية أن أحد الطلبة يبدو مرتبكًا ومتوترًا وكأنه يخفي شيئًا تحت يديه، وفي حركة خاطفة من الوكيل الخبير بممارسات الطلبة أمسك بالطالب متلبسًا، وطلب منه الخروج من القاعة فورًا بحزم لا يحتاج إلى تفسير.

وبذكاء المربي القدير وسعة أفقه وقلبه الكبير؛ ولأن الطالب كان في أول يوم من اختبارات الثانوية العامة طلب منه أن يبلغ والده فورًا؛ ليحضر إلى المدرسة، وجاء والد الطالب مسرعًا وأبلغه هذا المربى الحكيم على انفراد أن ابنه قد ارتكب مخالفة الغش ووجد متلبسًا ببرشام صغير مكتوب عليه أجوبة محتملة؛ لذا فإنه لامحالة يعتبر راسبًا في هذه المادة لكن أنصحك أن لا تخبره بذلك دعه يكمل بقية الاختبارات معتقدًا أننا سامحناه، حتى لايفقد الحماس والأمل والرغبة في اكمال بقية الاختبارات وبدلًا أن يرسب في مادة يمكن النجاح فيها في الدور الثاني سيرسب في عدد من المواد إذا فقد الأمل، وعندها سيضطر إلى إعادة السنة كاملة من جديد.
واستمع الأب لهذه النصيحة المهمة والصادقة، وعمل بها وأبلغ ابنه أنه سيتم مسامحته في فعلته وعليه التركيز في القادم من الاختبارات، وعند ظهور النتائج عرف الابن الحقيقة المُرة لكنه بعد ذلك استطاع تجاوز الحزن والألم والغضب، ونجح في الدور الثاني، ولم يخسر الطالب تلك السنة المهمة في حياته وتعلّم درسًا لا ينسى من هذا المربي الخلوق، وهو أن العقاب يكون على قدر الفعل، ويجب أن لا يتجاوزه إلى أكثر من ذلك.
كان يمكن للأستاذ فؤاد أبو الخير أن يخبره أنك راسب من البداية، ويقضي على كل أمل لديه لكنه تعامل مع الطالب برحمة وعدل وبعد نظر لم يتجاوز عن خطأ الطالب لكنه أيضًا لم يفقده حماسه وأمله في النجاح في بقية المواد.

 

أ.عبدالرحمن التونسي مدير عام مدارس الثغر رحمه الله و أ. فواد ابو الخير وكيل المدارس في صوره تجمعهم

وفي إحدى المرات أراد أحد الطلبة لموعد لايقبل التأخير أن يستأذن للخروج من المدرسة بعد الحصة الثالثة لكن وكيل القسم المتوسط رفض السماح له بذلك إلا بموافقة خطية من ولي أمره ورد الطالب في غضب إذًا سأخرج بدون إذن، وحين وصل إلى بوابة الخروج بعد الحصة الثالثة وجد الأستاذ فؤاد أبو الخير ينتظره هناك وسأله ماذا تنوي أن تفعل، ولماذا تريد الخروج فأخبره الطالب بظرفه وسبب خروجه فأخذه إلى مكتبه، وقال له أنا ولي أمرك يابني، وكتب له ورقة لوكيل القسم أن يسمح له بالخروج.

في آخر يوم من المدرسة في نهاية المرحلة الثانوية، وفي طابور الصباح ارتجل الأستاذ فؤاد كلمة وداعية تحفيزية للطلبة المتوقع تخرجهم من الثانوية العامة، وقال لهم وكنت من حسن حظي أحدهم يا أبنائي اليوم نودعكم بعد أن عملنا كل مانستطيع من جهد لكي تحصلوا على العلم النافع ولم نبخل عليكم بشيء، أرجوكم تذكروا ذلك جيدًا، وأنتم تشقون طريقكم في الحياة، وأعكسوا لكم صورة مشرقة عن أنفسكم وعن هذا الصرح التعليمي الذي تعلمتم به، نريد أن نراكم في أعلى المناصب والمواقع وخريجو هذه المدارس دائمًا يرفعون الرأس، ودمعت عيناه واختنق صوته بدموعه، وهو يقول أنتم أبنائي الذين يعز علينا أن نفارقهم، ولكنها سنة الحياة وعزاؤنا أنكم ذاهبون إلى مكان أفضل يحقق طموحاتكم ورغباتكم وآمالكم، وسنبقى دائمًا وأبدًا لكم، ولمن يأتي بعدكم الموجه والمعلم والناصح الأمين.
تقاعد مبكرًا من سلك التعليم، وانتقل للعمل في القطاع الخاص في شركة تهامة للإعلان والعلاقات العامة والتسويق لكن حنينه إلى سلك التعليم وثقة المسؤولين في قدراته ومواهبه التعليمية جعلته محط الأنظار من جديد وأعيرت خدماته إلى مدارس دار الفكر الخاصة التي كانت من المدارس الراقية في ذلك الوقت، والتي أُنشئت على أعلى معايير لجودة التعليم، وكان أبو الخير الحصان الرابح الذي بحثوا عنه ليتولى رئاسة قسميها المتوسط والثانوي.
ثم انتقل للجانب الخيري والاستثماري في تغذية الجانب الروحي؛ فأصبح عضوًا في لجنة المراجعة والضبط والتدقيق للمصحف المعلم مع كبار المشايخ لشركة الوسيلة للنشر والتوزيع، وعضوًا فاعلًا في العديد من الجمعيات الخيرية يأتي من أبرزها الجمعية الخيريه بمكة؛ حيث تقلد منصب رئيس لجنة التعليم والثقافة، وساهم في إنشاء روضة خيرية للأطفال بأعلى المواصفات وجمعية أصدقاء الزهايمر.

 

أما على الجانب الأسري فقد رزقه الله بزوجة صالحة وداعمة له هي السيدة الفاضلة ابتسام عبدالله مديني التي رافقته في مسيرته، وكانت له الظل الظليل، والواحة الدافئة الخضراء التي يستظل بظلها، ويحظى بحبها وحنانها، ودعمها اللامحدود، ونشأت بينهم علاقة روحية وأسرية دافئة وهانئة، وفي منتهى الود والاحترام أثمرت عن أسرة متحابة، وأنجبت له ٤ بنات واثنين من الأبناء
لمياء- هاجر-أماني- ميسون
محمد – حاتم
إذا نظرت إليهم وجدتهم نبتة صالحة زاهرة مثمرة لأب عظيم وأم حنونة.
وله ٢٦ من الأحفاد الذين يتحدثون عنه بكثير من الحب والود، ويحرصون على تواجدهم بالقرب منه؛ ليستمعوا إلى حكمته وخبرته، ويتعلموا منه معنى الحب للأسرة والتضحية والوفاء.
فؤاد أبو الخير لم يكن تربويًا ورجل تعليم وإداري محنك فقط بل كان مدرسة في الالتزام والانضباط والدقة والعمل المحترف، وكان حقًا منبعًا للعطاء لاينضب، وشلالًا من الخير، والعمل الصالح لا يتوقف ولا يعطب.
باختصار كان له من اسمه نصيب أبو الخير كله خير نسأل الله أن يمنّ عليه بالصحة، ويبارك له في عمره ويحفظ له أسرته، وسيبقى في عقولنا وقلوبنا خالدًا ذكره، وفائحًا بالطيب عطره، وعاليًا بالخير رصيده، وغامرًا علينا نحن طلابه فضله وإحسانه مدى العمر.
كما أود أن أتقدم بالشكر والتقدير للابنة البارة الأستاذة لمياء فؤاد أبو الخير على تزويدي بمعلومات مهمة عن والدها ومساهمتها الفاعله في إعداد هذه المقالة.

‫9 تعليقات

  1. سلمت يداك سيدي…
    حديث ممتع عن شخصية مربية عظيمة
    تغرس المُثل النبيلة بأفعالها…
    نفتقد تلك الشخصية في زمننا هذا

    اسأل الله ان يبارك فيه وفي ذريته..

  2. اسال الله تعالى ان يبارك فيه وان يجعل ماقام به من جهد في ميزان حسناته ..مربي فاضل افنى عمره في تعليم وتخريج اجيال استطاعت شق طريقها في الحياة بكل ماهو جميل

  3. الله يحفظه ويجزاه خيرا عن كل من علم وعن كل ما علم من اداب وقيم وسلوكيات…. ولم يكن يوما مجرد موظف او مجرد معلم.. بل كان ولا يزال النموذج للمربي والمعلم المثالي..
    جزاه الله خيرا زرع في شبابه وحفظ الامانة وأخلص لمهنة التعليم المقدسة وكافأه الله بطلاب أوفياء حفظوا له معروفه ويدعوا له ويتواصلوا معه..
    حتى من يذكرون له مواقف صعبة او عقوبات، تلاقيهم اليوم يعرفوا خطأهم ويشكرونه على معاقبتهم لتقويم سلوكهم .. وهذه مهمة المربي.. يقول ابو تمام

    “فقسا لتزدجروا ومنْ يكُ حازماً
    فَليَقْسُ أحياناً وحيناً يَرْحَمُ”

  4. خالي فؤاد نموذج وقدوة لنا كاب ومُعلم.
    وظيفته “التربوية” هي كذلك شخصيته-مُربِي.

  5. خالي فؤاد أبو الخير، هو فؤاد وقلب الخير، هو قلب آل أبو الخير، هو القلب النابض بالحُب المؤدِب. كان، ولا يزال، مُربياً لنا في البيت، وليس مربياً للتلاميذ فقط في وظيفته.
    ‏شخصيته هي كذلك وظيفته. تمنذجت منه واقتبست هذه الشخصية اثناء عملي في مدارس الثغر كذلك في اامرحلة الثانوية.

  6. عزيزي ابو نواف
    سلام وتحيه
    الاضاءات عن رجل ومدرس ومربي ومثقف في قامة الاستاذ فؤاد محمد ابو الخير هي عرفان يتعدى وفاءكم لاستاذ تعلمتم وتعلم الاف الطلبه على يديه وكان مثالا للاداره الراقيه والحكيمه ،تعدي ليمتد الى تعبير عن تقديرنا جميعا له ولاسرته وعن الامتنان والتقدير لاعماله واخلاصه وتفانيه في خدمة صرح التعليم والتربيه ولاشك انكم بذلك تمتد ايضاءتكم لتنير وتشيد باعمال الرواد ولعلنا في كافة المجالات ولعلنا نرى قريبا من يسجل لكم اضاءه لاعمالكم النبيله فانتم تستحقون التقدير على نفس المستوى من التكريم وتسجيل الامتنان…
    تحيه وتقيديز وتهنئه لكم ولاسرتكم وللقراء بمناسبة قدوم شهر رمضان الذي ننتظره ليضيء قلوبنا وارواحنا بعطائه ورحمته
    عبد الحميد حميد الجحدلي

  7. جزاك الله خيراً استاذ حسن و خالتي لمياء على المقال الرائع، استمتعت بكل التفاصيل ، سيدي فؤاد الله يحفظه و يعطيه الصحة و العافية، كان و مازال حتى الآن يشجعنا للتعلم و يزرع فينا الاداب و الاخلاق الفاضلة.
    شكراً لكم

  8. جميل ما كتبت عن قامة تربوية تميزت بالكثير من الصفات وفي مقدمتها حسن الخلق فنعم الاستاذ والأب ونعم المربي ونعم الاخ والصديق اطال الله عمره ومده بالصحة وجزاه الله خير على ما قدمه في مسيرته العملية ومتعه واسرته الكريمة بالسعادة والهناء.

  9. تخيل ان هذا المقال من طالب تخرج من المدرسة واكمل تعليمه الى الماجستير وعمل الى ان تقاعد ومازال يذكر هذه الشخصية مما يعطيك صورة عن مدى تأثير هذا الرجل في حياة طلبته ومن حوله. الله يرزقه الصحة والعافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى