د. عبدالله علي النهدي

زراعة التفاح في أروقة المؤسسات

يروى بأن شركة فواكه بولندية تمتلك عددًا من المزارع إحداها مزرعة لإنتاج التفاح، وتُعتبر من أهم وأولى المزارع التي أنشأتها الشركة، وفي أحد الأيام أصاب بعض أشجار التفاح مرض غامض، فأبلغ مدير المزرعة إدارة الشركة بالموضوع، فتم تكليفه بالعمل على حل تلك المشكلة، فاستعان مدير المزرعة بمجموعة خبراء من خارج الشركة لدراسة مرض أشجار التفاح، وإيجاد الحلول المناسبة، وبناء على ذلك طالب إدارة الشركة بتأمين ميزانية كبيرة، وعمل على تصعيب الموضوع وتعقيده حتى يلفت الأنظار؛ ولكي تهتم الإدارة بالمزرعة بصورة أكبر، ولكن عندما حضر الخبراء وجدوا أن الموضوع في بدايته، وليس بتلك الصعوبة بل إنه سهل الحل، لكن المدير أصر على ضرورة بقائهم فترة أطول ودراسة المشكلة بصورة أوسع؛ فلربما يتطور المرض وتتفاقم المشكلة، كما أخبر إدارة الشركة أن المرض ربما ينتقل إلى بقية المزارع، وبالتالي سيؤثر على محاصيل الفواكه الأخرى، وبطبيعة الحال فالمستشارون جالسون ومرتاحون؛ فكلما زادت أيام بقائهم في المزرعة كلما زادت مكاسبهم المادية. وكلما تحدث معه أحد العاملين من داخل المزرعة وقال له: إن مرض أشجار التفاح يمكن حله دون الحاجة لمستشارين من الخارج! ولا يحتاج كل هذه التعقيدات؛ رد عليه: أنت لا تعرف شيئًا! فهذه مسؤولية وأنا لا أستطيع أن أتحملها بمفردي، وكيف يمكنني أن أقرر بأن المشكلة انتهت، ثم بعد ذلك أتحمل المسؤولية القانونية أمام إدارة الشركة لو حدث شيء فيما بعد.
زادت المصاريف على الشركة مع مرور الوقت، خصوصًا أن لديها مزارع أخرى ومحاصيل مختلفة غير التفاح، لكن التركيز والجهد الحالي صار على مزرعة التفاح فقط، وبقي مدير المزرعة مصرًا على أن بقية المزارع والمحاصيل ستتأثر حتى لو كانت بعيدة عن أشجار التفاح، وذكر لهم أن هناك مزرعة (بن) في البرازيل تأثرت بمرض مشابه، وأثرت في كافة محاصيل الشركة المختلفة، وعندما سألوه: ما هو وجه الشبه بين البن والتفاح؟ وما هي علاقة بولندا بالبرازيل؟ أجابهم أن العلاقة موجودة فنحن في عصر العولمة!! ولأن مرض أشجار التفاح أصبح الشغل الشاغل لإدارة الشركة والعاملين في المزرعة؛ فقد أصبحوا يتواصلون معه بشكل يومي لمتابعة نتائج هذه المشكلة على الرغم من أن الشركة لديها أنشطة ومحاصيل أخرى يجب التركيز عليها، وكذلك على العاملين داخل المزرعة لديهم من المشكلات والطموحات المتعلقة بتحسين أوضاعهم التي كانوا يعانون منها قبل هذه المشكلة، لكن مدير المزرعة أشغلهم عنها بسبب هذه المشكلة. وبعد جهد جهيد ومضي فترة زمنية حرجة؛ ظهر مدير المزرعة الهمام يزف البشرى ومهنئًا الجميع بإعلان انتهاء أزمة مرض أشجار التفاح، وهكذا عمّت الفرحة أرجاء الشركة قاطبةً وتبادل العاملون التهاني بعودة العمل في مزرعتهم لوضعه الطبيعي متناسين همومهم الأخرى. فيما بدأ مدير المزرعة يتحدث بعد ذلك عن مغامراته مع مرض أشجار التفاح والمجهودات التي بذلها والأبواب التي طرقها!! والوسائل التي استخدمها خلال تلك الفترة ودور المستشارين الذين استعان بهم من خارج الشركة.

هذه القصة حدثت وتحدث أمثالها كثير من الروايات في مؤسسات أخرى في مختلف دول العالم، مع اختلاف نوعية الأشجار المُصابة بالداء، ويمكننا أن من خلال هذه القصة أن نستخلص عددًا من النقاط أهمها:
– استغلال المسؤولين في بعض المؤسسات للمشكلات البسيطة التي تحدث في مؤسساتهم بتحويلها إلى أزمة تشغل بها الإدارة تفكير العاملين في المؤسسة عن إيجاد حلول لبقية المشكلات الأخرى الأكثر تعقيدًا التي يُعاني منها العاملون.
– هناك من يقوم بتحويل المشكلة البسيطة إلى أزمة، ومن ثم تتحول الأزمة إلى صفقة ومشاريع تجارية (تجار الأزمة)؛ بحيث يتم استثمار هذه المشكلة باستقدام أكبر عدد من المستشارين من خارج المؤسسة بحجة حل المشكلة وتطوير العمل، بينما يكون الهدف الحقيقي؛ استفادة الإدارة ونفع أولئك المستشارين ماديًا، بل واستقطاب البعض منهم للعمل في المؤسسة بصورة دائمة، فهم في العادة يكونوا من الأصدقاء ومن المقربين من مدير المؤسسة، ويكون ذلك على حساب العاملين داخل المؤسسة؛ وبخاصة أولئك الموظفين الذين هم أكثر كفاءة من المستشارين القادمين من خارج المؤسسة بل وأكثر خبرة وجدارة حتى من المدير نفسه.
– إظهار مدير المزرعة (المؤسسة) نفسه مظهر البطل عندما يتم حل هذه المشكلة التي لم تكن بالصعبة، وقد كان بالإمكان حلها من اليوم الأول.
– توقف العاملون عن المطالبة بحقوقهم الأخرى الضائعة أو المسلوبة؛ نتيجة فرحتهم الكبيرة بانتهاء المشكلة الصغيرة، وعودة العمل داخل المزرعة لوضعه الطبيعي.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة: يا ترى كم شجرة تفاح معلولة تم غرسها داخل كثير من مؤسساتنا الحكومية والخاصة على حدٍ سواء؟!! بهدف إشغال العاملين عن المطالبة بحقوقهم وعن التفكير في طموحاتهم المستقبلية؛ وبغرض إعاقة حركة مسارهم الوظيفي، والهدف الأكبر لافتعال تلك المشكلات هو تبني نظرية المحسوبية، وتبادل المنافع مع المقربين وأصحاب المصالح، واستغلال الفرصة؛ لإيجاد مخارج لتبديد أموال المؤسسة. والأشجار المعلولة كثيرة ومتنوعة وربما تختلف من مؤسسة لأخرى، فهناك إدارة تبنت غرس أشجار الترقيات المجمدة، وأخرى مشكلتها في أشجار العلاوات المقطوعة، وثالثة تواجه أزمة شجرة البدلات المسلوخة، وهناك من يحاول انتشال شجرة الكادر المدفونة، وخذ على طريقك أشجار خارج الدوام والانتدابات والتأمين الصحي وغيرها الكثير، حتى كورونا تم زراعة شجرتها في قلب عدد من المؤسسات؛ لاستثمار هذه الكارثة قدر المستطاع من قبل إدارة تلك المؤسسات من أجل التلاعب بحقوق الموظفين بحجة ظروف هذه الأزمة. المحزن هو حال العاملين في تلك المؤسسات فكلما فرحوا بمعالجة شجرة معلولة؛ تفاجأوا بانتقال المرض لشجرة أخرى، مع يقينهم بأن الطبيب الذي عالج الشجرة الأولى هو نفسه المدير! عفوًا هو نفسه الطبيب الذي نقل المرض لشجرة الأخرى.
وأخيرًا أنصحك ألا تفرح، بل انتبه! واحذر! وإياك أن تقول آمين عندما يقول لك أحد من الناس: الله يهب لك شجرة تفاح في مكتبك أو في وظيفتك!!

خير ختام:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ).
————-
عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة.

Related Articles

4 Comments

  1. بارك الله في قلمك يا دكتور

    بعض المؤسسات الحكومية والخاصة يستخدمون عمليه تطعيم شجرة التفاح بشجره خارجيه لتحسين الإنتاج ولكن المصادفة تأتي بأن الشجرة المطعمه من الخارج تكون يوسفاندي، لا نجح الإنتاج الجديد ولا فلحت شجرة التفاح في التمسك بوضعها..
    على الله المشتكى..

  2. رائع يادكتور عبدالله ننتظر مقالاتك دائما لما فيها من الحكم والدواء شكرا لطرحك وافكارك النيره اسعدك الله وابعد عنا وعنك كل شجره مربضه وناخرها ااسوس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button