١- الشغف
تابعتُ بتمعُّنٍ واهتمامٍ لقاءَ سموِّ وليِّ العهد السعودي محمد بن سلمان بمناسبة مرور خمسةُ أعوامٍ على الرؤية الطموحة 2030 للمملكة العربية السعودية، وهو لقاءٌ غزير في طموحاتهِ، وبياناته، ولغةِ أرقامه، على أنني هنا سأتطرقُ في هذه المقالةِ إلى محرِّكاتٍ قيمية تنطلقُ من اهتمامي الشخصي بالقيم، وأرى أنها تقفُ وراءَ الإِنجاز، لأنها أهمُّ من الإنجازِ نفسه نظراً لأنها لا تقفُ عند شاهده الماديِّ، فضلاً عن أنها تصدرُ من رؤيةٍ عميقةٍ، ممنهجةٍ، واضحةِ المعالم، جليَّةِ الخطوات.
إنَّ أهم ما يتميَّزُ به كلُّ قائدٍ حاذقٍ هو اختيارُ البطانةِ أو الفريق الذي يساندهُ في تحويل أفكارهِ إلى واقعٍ عمليِّ، لهذا لم يكن اختيار سمو وليِّ العهد لطاقم فريقهِ الحكومي من الوزراءِ تقليدياً مبنيَّاً على القدرات والكفاءات وحسب؛ بل وعلى أمرٍ مهمٍّ جداً قلَّما يتطرَّقُ إليهِ أحد، وهو: الشَّغف! نعم الشغف فهو أقوى المحرِّكات للطاقة الإنسانية نحو تحويل الخيالِ إلى واقع، والخيال – كما يقول إلبرت إنشتاين- أهم من المعرفة ، فهو رؤية مسبقة لجاذبيات الحياة المستقبلية، كما أنَّ صناعة الرؤية المستقبلية هي أشبهُ بالحكمة التي قالها الفرنسي أنتونيو دي سانت (1900-1944): إذا أردت أن تبني سفينة فلا تقرع الطبول للرجال كي تكلفهم بجمع الحطب، ولكن بدلاً من ذلك إِلْهم أخيلتهم بالبحر الواسع الذي ليس له حدود”، لهذا لفَتَ اهتمامي تقييم ولي العهد للوزراء وهم قادة التغيير في المجتمع، ومحرِّكو دفَّات السُّفن نحو المستقبل، فكانَ أن استغنى عن 80% منهم لأنه كان يبحثُ عن الشَّغف الذي تراهُ في إشراقةِ العيون، وتوهجها، وفي قوة العزيمة وحيويتها، وفي نباهةِ العقولِ وحذاقتها، وفي قبول التحدي وصنع اللَّامألوف واللَّامعتاد. الشغف هو الذي يقودُ الأُمَّةَ إلى إحداث التغييرات الكبيرة والاستثنائية في المجتمعات الإنسانية.
وموضوع الشَّغف يذكرِّني بأحد الأبعاد الثقافية الخمسة التي وضعها المفكر الهولندي المهندس جيرت هوفستيد وهو بُعد “تجنب عدم اليقين uncertainty avoidance (UAI)” هذا البعد يعبِّر عن درجة تقبُّل المجتمع عدم اليقين والغموض، ويكشف عن كيفية تعامل المجتمع مع حقيقة ان المستقبل لا يمكن التنبؤ به، ويثيرُ أسئلة من قبيل:”هل يجب التحكم بالمستقبل او انتظار ورؤية ما يحمل بخيره وشره؟”، وعن طريق هذا المؤشر يمكن تصنيف الدول؛ فالدول التي تسجِّل درجةً عاليةً في مؤشر “تجنُّب عدم اليقين والغموض” لا يفضِّل شعبها الأفكار والسلوكيات الغير تقليدية، في حين أن الدول التي تسجِّل درجة منخفضة لديهم تقبُّل أكثر للتغيير.
دولنا محتاجةٌ إلى انخفاض هذا المؤشِّر لأن المجتمعات التي تتفادى عدم اليقين وتتجنب الغموض ولا تملك روح المغامرة ولا تتحلَّى بالإرادة لتجشُّم المشاق وتريد أن تعيش على ذات الحال دون تغيير لا يمكن لها أن تتقدم لأن هذه الثقافة معيقة لأي إرادة من أجل التغيير، يقول الكاتب السعودي المهندس عوض سالم الحربي: “إن كثيراً من الأهداف النبيلة التي يتم السعي لها تصطدم بالثقافة المجتمعية والتي تكون لها عائقاً أمام الوصول للنجاحات المطلوبة”، أما المجتمعات التي تتمتع بالشغف وهو الدافع نحو ارتياد الآفاق، والطاقة المتوفزة نحو إحداث القفزات الكبيرة في سلِّم الحضارة فهي المجتمعات التي ينخفضُ فيها مؤشر “تجنُّب عدم اليقين والغموض”.
هذا يعيدنا إلى أهمية البُعد الذي ارتكز عليه سمو وليِّ العهد محمد بن سلمان في اختياره لفريقه الوزاري، وهو الشغف، يقول عنه الفيلسوف، والكاتب الفرنسي دينيس ديدرو:”وحده الشغف، الشغف بالأمور العظيمة، يستطيع أن يسمو بالروح إلى مقامات عالية جداً”، والشَّغفُ هو الذي يطبعُ همَّة سموِّ الأمير وإرادته في التغيير، وصناعة واقعٍ أفضل، وكأنَّما بالشَّغف هو النسغ الذي يتدفَّقُ بين أوردة كلماتِ الأمير لصنع مستقبل أفضل لوطنه.
==
* كاتب وشاعر وإعلامي عماني
رئيس مركز قِيم
له العديد من المؤلفات آخرها”القيم السلطانية للسلطان قابوس بن سعيد”
شكرآ جزيلاً دكتور اوجزت من هذا المقال الرؤية الكبيرة لصاحب السمو والنهج والتحدي والرؤية والشغف الذي ننتظرها بارك الله فيك
ابدعت يادكتور ووضحت وفسرت اللقاء ✋