٢– الواقعية
أهمُّ أداةٍ من أدوات القائد السياسي هي “الواقعية”، وتعني تقديم الحقائق دون تزييف أو تشويه إلى شعبه، فالقضيةُ ليست قضيةً شخصيةً تتعلَّق بتشبُّث القبطان بمنصبه في حين أن الماءَ يتسرَّبُ إلى بطنِ سفينته، ولا هي تزويقُ الواقع بنفي التَّحديات والأزمات، بل بمصارحةِ الشَّعبِ بما يتوجَّب أن يعرفه من أجلِ أن يتفهَّم القرارات الصادرة من القائد السياسي ومن طاقمه الحكومي.
وإنني هنا استذكرُ إحدى أهم خُطب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والتي ألقاها في مجلس العموم البريطانى للمرة الأولى عقب توليه منصب رئيس الوزراء فى الثالث عشر من شهر مايو 1940م ومما جاء فى الخطبة: «إننى أؤكد لمجلس العموم كما سبق أن أكدت لأولئك الذين انضموا لهذه الحكومة: أننا ليس لدينا ما نقدمه غير الدم والتعب والدموع والعرق”، وعلى الرغم من مرارتها إلا أن روح الواقعية فيها هي التي أجَّجت صمود البريطانيين وأوقدت حماسهم لخوض غمار الحرب ضد ألمانيا النازية، كما كانت دعوة لحمل السلاح وتوحيد الصف البريطانى ضد خطر النازية.
أعودُ إلى لقاءِ سموِّ ولي العهد السعودي لأجدهُ يحملُ طرحاً واقعياً في نظرته الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والدينية، والبيئية، ابتداءً من عرض الأَرقامِ التي استعرضها سموَّهُ في الجانب الاقتصادي بوضوحٍ يدلِّل على مدى انغماسهِ في تفاصيل الرؤية 2030، مروراً بالواقعية السياسية التي تحدَّث فيها عن إيران كدولة جارة، وأنه يريد أن تكون للمملكة علاقة “طيبة ومميَّزة” معها، ووصولا إلى علاقات المملكة المتكافئة مع الأقطاب والتكتلات المؤثرة عالمياً.
هذا النظرة الواقعية تنطلقُ من عدِّةِ أُسس لا يمكن القفز عليها، ولا تجاوزها، وهي القرب الجغرافي بدولةٍ مثل إيران، والمصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية والدينية المشتركة، وكذلك هو الأمرُ مع بقية الدول الأُخرى التي تفرضُ الواقعية التعامل معها بمنطق المصالح عبر العلاقات الدبلوماسية مع الرفض التام لأي تدخل في الشؤون الداخلية للمملكة.
كما بدت الواقعية واضحة في طرحه إذ يؤكِّد سموَّ الأمير في معرضِ ردِّه عن مقاومة الهوية الوطنية للمؤثرات الناتجة عن الإنفتاح بأن الهوية إن لم تستطع أن تصمد مع الانفتاح بما فيه من تنوُّع ثقافي فهذا يعني أن الهوية تعاني من الضعف والهشاشة، لهذا فالإنفتاح هو اختبار لمدى قوة وصلابة الهوية الوطنية، ومنطق هذا الكلام هو أن الواقعية تستلزم أن تتفتح العقول على الثقافات الأخرى ، والآراء الأُخرى، وهنا أستذكرُ مقولة الزعيم الهندي المهاتما غاندي Mahatma Gandhi عام 1958″ لا أحبُّ أن تَسدُّ الجدران المنيعة بيتي في كل جهة، وتغلق نوافذي، إنّما بدلاً من ذلك ، أحبُّ أن تهبّ ثقافات الأرض المختلفة في بيتي قدر المستطاع، لكنني أرفض أن تقذفني أيّاً من هذه الثقافات خارج بيتي” الواقعية إذن هي أن تتقبِّل التنوع الثقافي مع حفاظك على مقوِّماتك ومكتسباتك ودعائمك التي ارتكزت عليها هويتك.
إن خطاب الواقعية يؤسس لتغيير الثقافة التي تعتور بعض المجتمعات التي تسودها المجاملات وتزييف الوقائع، وتشويه الحقائق، وغرس ثقافة واعية لدى الشباب خاصَّة قوامها واقعية النظر نحو الحياة، يقول باتلر:”للشباب أجنحة تطير بصاحبها سريعا إلى بلاد الخيال فلا يرى أمامه إلا الأفراح والمسرات ولا يعلل نفسه إلا بالآمال والأماني”ويقول وجر فريتس”الفرق بين الواقع والحلم هو كلمة من ثلاثة أحرف (عمل)”، ولا يمكنُ أن يخدمَ أيَّ شعبٍ من الشعوب إلا الواقعية التي هي عِماد الحوكمة العادلة، لأن الشعب إذا استقام نظره، وشفَّ بصره، وثقبت بصيرته، ووعى عقله استطاع أن يؤسس مستقبله وفق ما يشفُّ عن معطيات الواقع لا مجرَّد توهمَّاتٍ من أحلامِ اليقظةِ أو تخرُّصاتٍ لا أساسَ لها في الواقع.
كان الراحل ستيف جوبز يسأل نفسه سؤالاً واقعياً كل يوم، فكان هذا السؤال وراء انجازاته التي غيَّرت العالم إذ يقف يومياً أمام المرآة فيسأل نفسه سؤالاً: “لو كان هذا آخر يوم لي في الحياة هل سأفعل ما أنوي القيام به اليوم؟ فإن كان الجواب: لا لعدة أيامٍ متتاليةٍ، سأعرف أنه يتوجَّبُ عليَّ تغيير شيء ما”.
———————
* كاتب وشاعر وإعلامي عماني
رئيس مركز قِيم
له العديد من المؤلفات آخرها”القيم السلطانية للسلطان قابوس بن سعيد”
طرح متزن يتسم بالواقعية ويشكر الكاتب على اهتمامه بالشأن المحلي واسلوبه الجميل في الكتابة والاستشهادات ??
الدكتور صالح الفهدي المفكر العماني الذي يقرأ المعاني، ويضع الخلاصات في محلها من خلال مقارنتها بغيرها من المواقف، وتحليله للقاء ولي العهد الأمين للملكة محمد بن سلمان هي قراءة واقعية ومهم تحليل المضمون لمثل هذه اللقاءات ليستفيد منها القراء