3- الفُرص
وجَّه المحاور سؤالاً عميقاً إلى سموِّ وليِّ العهد حول ما إذا كانت الخُطى سريعةً ينتجُ عنها حرقُ المراحل! فكانت إجابة سموِّ الأمير محدَّدةً وصريحةً مفادها أن: القضية هي قضية فُرص، فإن كانت متوفَّرة فإنَّ المنطق يقتضي استثمارها دون تردُّد، إذ أن الإحجام بحجة (حرق المراحل) ليس مما يقبلهُ المنطق.
وصدقَ في ذلك؛ فالتقدُّم معقودٌ على استغلال الفرص، ولم تتقدَّم أمَّةٌ تُحجمُ عن الفرص السانحة، في حين أنَّ الأمم التي تبحثُ عن الفرص أو تصنعها هي الأُمم التي عرفت التقدم، وشكَّلت لنفسها مستقبلاً مُبهراً، ومزهراً، يقول الأديب الإنجليزي جورج برنارد شو: “دائماً ما يلوم الناس الظروف، ولكني لا أؤمن بالظروف، الناجحون في هذه الدنيا هم الذين يبحثون عن ظروف مواتية، فإن لم يجدوها صنعوها”
وإنني لأُدرك ما استبطنه سؤالُ المحاور من مغازٍ ومعانٍ مدارها أن وتيرة السرعةِ قد يلحقُ ضرراً بثقافة المجتمعِ وهويته ومعتقداته الدينية، لكن المجتمعات التي ارتكزت على قواعد صلبةٍ من الثقافةِ، وأعمدةٍ مكينةٍ من الهوية لا يمكنُ لها أن تنحرفَ عنها، على أننا يجب أن نسلِّم بحقيقة أن فترات التغيير قد تصادفها متغيرات فكرية وثقافية معينَّة بيدَ أنها سرعان ما تتمسكُ بثوابتها القيمية التي نشأتَ عليها لتوائم بينها وبين المتغيرات، ولتعيد تشكيل ثقافتها استناداً إلى تلك المرتكزات المكينة.
لا مبرر للشعوب الطموحة في أن تتقاعس عن الإقدام نحو التغيير، والتغيير له أثمانهُ وتضحياتهُ، لكنها وتيرةٌ متسارعة اتَّسم بها العالم، مليئةً بالمتغيرات السريعة، والمتقلبات المتلاحقة التي لابد من استيعابها وفهمها والتكيِّف معها، وقد غدا العالم أكثرُ اضطراباً وهيجاناً من ذي قبل نظراً لتغير موازين القوى الاقتصادية والعسكرية التي تفرضُ بدورها المتغيرات السياسية وتعيد تشكيل لغة المصالح بين الدول.
وإذا كان سموِّ الأمير “قنَّاصُ فُرَصٍ” فتلكَ نباهةٌ وحذاقةٌ في شخصيته، إذ أن قوام الشخصية التي تتمتع بشغف التغيير، وصناعة مستقبلٍ أفضل هو اقتناص الفرص، وليس الترقُّب لها وحسب، أقولُ في كتابي “ماذا أنتظر؟”:” صناعة الفرص مهنة المبادرين الناجحين، أمّا صناعةُ المشكلات فمهنةُ المتقاعسين الفاشلين..! أُناسٌ يلمسون الخشب فيحوّلونه إلى ذهب، وغيرهم يكنزُ الذّهبَ ويجري وراءَ الخشب..! إن المبادرة تتجاوز فكرة “إذا هبّت رياحك فاغتنمها” إلى فكرةٍ أسبقُ منها وأجدر وهي “بادِرْ لتَصْنعَ من ريحِ المُنى فُرصاً” فالفكرةُ الأُولى تتضمّنُ انتظار الرياح كي يُغتنم هبوبها مهما طال..؟! أمّا الثانية فهي روح المبادرة لصنع الفرص دون انتظار الرّيح هبّت أو لم تهب، ففي الإنتظارِ وأدٌ للمواهب، وقتلٌ للقدرات الكامنة في أعماق الإنسان، وفيها أيضاً أهدارٌ للفرص الشاغرة”.
وإذا كان سموِّ الأمير متهيِّأً لاقتناص الفرص فإن الرؤية 2030 تنطلقُ على نحوٍ شموليٍّ متجاوزةً حدوداً كانتَ ضيِّقة، ومظهرةً فرصاً كانت مخفيَّة؛ فلم نكن نسمع في السابقِ –على سبيل المثال لا الحصر- عن محافظة العُلا ومدائن صالح، فقد كانت كنوز هذه الأماكن معطَلة لا ترفدُ الإقتصاد حتى شملتها الرؤية فسلَّطت الأضواء عليها، فإذا بالكنوز الطبيعية تظهر بجلاء تعكسها تلك المرايا المصقولة في تلك الأمكنة الساحرة، التي طالما ربطها الغرب بالأسرار الشرقية الفاتنة، والتي غدت مهوى السيَّاح، وستغدو مهوى صنَّاع السينما وغيرهم من هواة المغامرات والآثار لتُخرج للعالم هذه الكنوز التي كان يلفُّها الصمت المطبق.
نعم إنها الفرص التي تحرِّك من يسعى إلى التغيير، ويرمي إلى تغيرات في مختلف الصُّعُد، يقول الشاعر محمود سامي البارودي:
بادرِ الفـرصةَ واحذرْ فوْتَها .. فبلوغُ العزِّ في نيلِ الفُرصْ
فابتدرْ مسعاك واعلمْ أنّ مَن .. بادرَ الصيدَ مع الفجرِ قَنَصْ
لا يمكن لمن ينشغل بالمستقبل أن لا يحرِّك ساكناً وأن يسلِّم بمبدأ “دعِ الأيام تفعل ما تشاءُ” وأن يظلَّ متقوقعاً في الماضي خشيةً من بعبع المستقبل، بل عليه أن يُقدم بشجاعةٍ على المستقبل، وفي هذا يقول براين تريسي Brian Tracy “”:إقض ثمانون بالمائة من وقتك مركزاً على فرص الغد بدل مشكلات الأمس”، الفرص وحدها ما يميِّز بين قيم البشر، وفي ميادينها يتسابقون، يقول البارودي:
. لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاعِي مَا يَبِينُ بِهِ .. سَبْقُ الرِّجَالِ تَسَاوَى النَّاسُ فِي الْقِيَمِ
====
* كاتب وشاعر وإعلامي عماني
رئيس مركز قِيم
له العديد من المؤلفات آخرها”القيم السلطانية للسلطان قابوس بن سعيد”