لا أعرف إذا ماكان يحق لي استناداً إلى لغة التداول اليومي ومفرداته السائدة التي عشقها سعدي يوسف وصاغ في أجواءها قصيدته عبر تجربته الممتدة بأن أصفها بأنها تغيير في إعدادات القصيدة العربية.
سعدي دون جدال عبّد للشعر طريقاً نحو توثيق اليومي البسيط وتخليد العابر فجعل من قصيدته ميداناً فسيحاً ومختبراً فنياً لكل مقترح جمالي حتى أنه بمجرد أن يصل فيها إلى مقترح جمالي وفني يغادره نحو مقترح جديد منطلقاً من قناعته ( ليس في الفن تجاوزات )
بذلك وضع الشعرالعربي برمته على الطريق الذي يعتقد صحته وجعل من اسمه واحداً من أهم الأسماء في مدونة الشعر على امتداد تاريخه.
ربما لأنه كان يرى في الشعر( بستان الله الذي لايطرد منه أحد ) وربما لأنه حكاية شاعر قتل الحنين ليستقيم ظهره -كما كان يردد-
شكل سعدي نهراً من الاسئلة في الشعر ووجه فوهات تلكم الاسئلة نحو اليومي محاولاً تخصيب هذه الموهبة الكبرى عبر التجريب الشعر صانعاً للشعر مداراً ومساراً وصنع من القصيدة وردة وهذا اقتضى بالضرورة أن يفعل المستحيل للحيلولة دون أن يصيب الوردة فعل الذبول.
تطلب هذا المشروع الشعري من سعدي أن لا يتعامل مع اللغة، بقدر تعامله مع الاشياء في حركتها الخفية فولجنا عالماً لم تطاوله القصيدة العربية طوال تاريخها وقف بنا على تخوم تلك اللحظة التي باحت فيها الأشياء بمكنوناتها ( أحذية الحرس الملكي التي أرهقتها المسامير ) ولمسنا معه الخضرة في الغصون الصغيرة واسمعنا صوت اندفاعات نبضها في أرجاء الغصون ووقفنا معه على لحظة خفية كصوت ركض الخزاف في الأصابع
وولجنا معه داخل أعماق بقعة الدم التي خلّفها قتيل على الأسفلت لنعيش لحظات ارتعاشاتها كلّما سمعت صوت أمه.
سعدي الذي تأمل قمر حمدان ونجوم سماءها قبل أن ينجح في صنع قمراً لبلاد الخراب يشبهها ويليق بها
(قمر من تراب / قمر من رصاص مذاب /قمر لبلاد الخراب)
سيظل محفوراً في جدار بستان الشعر أن سعدي يوسف شاعر وقف ضد الرتابة ونجح في خلق عوالم وشخوص ارتكب صهوة المتخيل واجترح آخر من أناه
ومن عمق تجربته واتساعاتها جاء بمن يرافقه عوالم جنونه حيث دوماً هناك أمثولة الشخص الثاني في ركضه في ميادين القصيد فوجدنا الطفل والأخضر بن يوسف وغيرهم الكثير
بلغ أواخر الثمانين في الوقت الذي ظل الساكن في أسئلة الأطفال لأنها تتيح له إمكانية تغيير هيئة الأشياء :
كيف تغدو السماءْ
خطوة ً واحدة ً؟
كيف تغدو الجذورْ
تاجنا؟
كيف تغدو المدينة ْ
جبلا ً؟
رحل سعدي وانتهت كل الأغاني ..إلا أغاني الناس ودهشة شعره .
