المقالات

شعريّة التعبُّد!

من القناعات القديمة التي تجاوزها الزمن ولم تعد بذلك الرسوخ، ربط الإبداع بالتحرر من الدين، وفي الوقت نفسه ربط ضعف الشعر بالدين. نتفهّم هذا النظر حين يكون الشعر رساليا صرفا، وكل شعر رسالي سواء له علاقة بالتديّن أو بالأحزاب السياسية أو الوطنية، أو الدينية في بعدها الحركي، شعر ضعيف؛ بسبب أنّه يقع تحت إملاءات الالتزام، غير أن الدين بمفهومه المتجاوز، بمفهومه الروحي المفارق هو قرين الفن، ويكاد يكون الفن، بما في ذلك الشعر، عالة على الدين، منذ أساطير اليونان الأولى، بل إنّ الأعمال الخالدة في الشرق والغرب كانت تستلهم في خيالها الموروث الديني، وتستند على فكرة العالمين: عالم الشهادة والغيب، التي أنتجت عالم الحقيقة والمجاز في بنية الفكر.
ومن يقرأ كثيرا في التراث الصوفي يجد أن شعرنة الحياة لديهم، وما ينتج من عبارات مكثّفة شعريا، إنما نتج لأنّهم في الأساس يتفاعلون مع الحياة من جانبها الديني التعبّدي، بصرف النظر عن الاختلاف معهم في الرؤية، لكنهم إنما اقتبسوا الشعرية الفائضة في مقولاتهم من بنية الدين، وهكذا في كل ما أنتجه الفن لا تكاد تجد شعرا أو سردا، إلا وهو متمركز حول هذه الروح المفارقة التي أسستها الأديان بكل توجهاتها.
بيد أن فكرة الانقلاب على تعاليم الدين بعد العلمنة التي غمرت الناس وسدّت الأفق أتاحت للمبدعين حرية في فضائها الخاص غير الملتزم، فظنوا أن الإبداع قرين هذا التحرر، لأنهم ربطوا بين شروط التديّن وقيود الفن مع قيود الالتزام الرسالي كما في الفن الملتزم، فخرجوا بفكرة أنّ الدين في مجمله محاصر للإبداع، لأنهم قصروا نظرهم على التعبير، لا على الرؤية، وعلى تفاصيل الصورة المجازية لا على الموقف الكلي من العالم، ولو أنهم قلبوا المعادلة وأنعموا النظر لعلموا أن الدين هو الذي فتح للإنسان صندوق اللغة وهو الذي كسر هذا القيد الموضوعي المادي للاستعمال اللغوي بما أتاحه للفكر والخيال واللسان من مادة ثرية استطاع بها الفنان أن يصنع عالما موازيا لم يكن ليستطيعه لولا بنية الدين التي فتحت له آفاق الكون بالعالم الغيبي المحجوب وراء اللغة والوجود المادّي.
ومن هنا يسعني القول إن للتعبّد لله شعرية تتجاوز اللغة إلى السلوك، وعالم النصّ إلى نصّ العالم، ومن يسلك هذا المسلك في تأمل الكون سيجد للعبادة لذّة الشعر وللشعر لذّة العبادة، وسيؤتى الحكمة في القول كما أوتي الحكمة في الفعل والسلوك، وبذلك يمكن قلب أطراف عبارة علي بن عبد العزيز الجرجاني” والشعر بمعزل عن الدين”، لنقول: “لا شعر بمعزل عن الدين، ولا دين بمعزل عن شعريّة الحياة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى