هذا ما أعلنته المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني مؤخرًا؛ حيث ضاقت الحيلة بهيئة حكومية عمرها أكثر من أربعين عامًا أن تتعرف على أوضاع خريجي كلياتها واكتشاف مساراتهم ومجالاتهم ومستوياتهم الوظيفية بعد التخرج؛ فاضطرت إلى الاستعانة بهيئة أممية دولية اسمها البنك الدولي لتقوم بذلك نيابة عنها، فإلى الله الشكوى والمشتكى.
التعرف على طبيعة الأعمال التي يسلكها خريجو برامج المؤسسة التقنية والمهنية بعد التخرج هو قناة التغذية الراجعة عن مستوى وجودة مخرجات البرامج التي تقدم في الكليات ومدى تجاوبها مع متطلبات عالم العمل والأعمال لكن المؤسسة التي تجاوز عمرها الأربعين لم تستطع أن تهتدي إلى ذلك سبيلًا ما يُثير التساؤل حول البوصلة التي كانت تستخدمها المؤسسة لتقييم مسار برامجها التدريبية خلال الأربعين عامًا الماضية.
تتبع المؤسسة لخريجيها أمرًا ليس بالعسير؛ خاصة في ظل وسائل الاتصال والتواصل الحالية وتوفر قواعد البيانات في جهات عديدة، وفي ظل ما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية وفرتها الدولة بسخاء لأكثر من أربعين عامًا. المعضلة أنه رغم كل المتغيرات الاستراتيجية والاقتصادية استمرت المؤسسة تُدار بفكر إداري تقليدي موروث؛ فالمهم قبول طلاب وبناء مباني وتوظيف موظفين وابتعاث مبتعثين ورحلات استكشاف دولية، وصرف مستمر في كل اتجاه دون مردود يُضاهي فاتورة النفقة الحكومية العالية سنويًا فأين تذهب المخرجات؟ الإجابة أصبحت لدى البنك الدولي فهو الآن القادر على الوصول إلى الخريجين، والتعرف على أوضاع حياتهم العملية ومجالات عملهم، وهو القادر على الوصول إلى قواعد بيانات التأمينات الاجتماعية ووزارة الموارد البشرية والغرف التجارية، أما المؤسسة فمنهمكة في استكشاف النظام السويسري في التلمذة المهنية الذي يطبق في المنشآت الإنتاجية على رأس العمل، وليس في كليات ومعاهد تدريب.
لا اظن أن شمس رؤية المملكة 2030 قد تسللت أشعتها بعد إلى المؤسسة المتخندقة في مبنى خرساني ضخم قرب أحد تقاطعات العاصمة الشهيرة، ولا إلى مئات الفروع التابعة لها في كافة مناطق المملكة، وإلا لما لجأت إلى البنك الدولي لإجراء دراسة مليونية تتبعية لخريجيها. الأمر يتطلب من المؤسسة الانتقال إلى طريقة تفكير ملهمة وأسلوب إدارة حديث يسمحان بالغوص في تفاصيل احتياج السوق السعودية من الكوادر البشرية بجميع مجالاتها ومستوياتها، وتبني مبادرات واقعية تساهم في إعداد وتأهيل وضخ أبناء وبنات الوطن المؤهلين إلى السوق، فكثيرون هم الذين يتساءلون وينتظرون منذ زمن طويل ما ستقدمه المؤسسة من أطقم فنية ومهنية مدربة، ولو بمستوى العمالة الفلبينية والهندية لا الألمانية ولا السويسرية ليحلو محل كتائب العمالة الأجنبية المنتشرة في كل زاوية مدينة وقرية.
البداية أن تُبادر المؤسسة نفسها، وتوقف نزيف الموارد المادية والبشرية والوقت والجهد في أعمال روتينية، وتتفرغ للأعمال التخطيطية والدراسات التتبعية وتطوير، وتحديث البرامج والارتقاء بالجودة، والحد من كافة الأعمال اللوجستية، والتخلي عن المركزية ما يطلق الطاقات في كل اتجاه. قصة نجاح التدريب التقني والمهني في بلادنا لم تكتب أول فصولها حتى الآن ومعالي وزير التعليم رئيس مجلس إدارة المؤسسة الموقر منتظر منه أن يأخذ الخطوة الأولى في ذلك؛ فهذا النوع من التعليم هام للغاية ولا يقل أهمية عن التعليم الجامعي فقطاعات واسعة في سوق العمل تنتظر مخرجاته الوطنية من أبناء وبنات بلادنا؛ ليأخذوا فرصتهم لخير دنياهم ومصلحة وطنهم.
الاقتراح المطروح منذ سنوات بنقل الإشراف على كليات التقنية إلى الجامعات؛ لتقدم دبلومات تطبيقية عليا متخصصة، وإعادة هيكلة وتأهيل المؤسسة لتكون متخصصة في برامج التدريب المنتهية بالتوظيف المدفوعة الرسوم من الجهات أو الأفراد جدير بالإثارة والدراسة مجددًا؛ فلعل في ذلك فرصة للخروج الذي طال انتظاره من النفق المظلم لنستثمر طاقات شبابنا، ولنرى أبناء وبنات بلادنا، وقد تصدوا لكل مهنة وحرفة ما يغنينا عما نُعانيه من أثار العمالة الوافدة الاقتصادية والأمنية وللحديث بقية.
والله من وراء القصد.
مقال في الصميم حتى الآن المؤسسة لا تعرف الطريق ، ولم تجد البوصلة .