عبدالرحمن العامري

متقاعدون لن يموتوا !

عندما تستضيف قناة تلفزيونية شخصيات سياسية أو اجتماعية أو أكاديمية أو مسؤول في أي قطاع سواء كان حكوميًا أو خاصًا؛ فإننا نأمل ونرجو من مقدمي ومعدي تلك البرامج أن يفهّموا ضيوفهم بأنهم يأخذون من وقت المشاهد، الذي لم يكن ليجلس متسمرًا أمام شاشة التلفاز بالساعات إلا من أجل سماع ما يثلج صدره من هؤلاء المسؤولين؛ وخاصة ما إذا كان ذلك الجالس أمام تلك الآلة الناطقة من تلك الفئة التي خدمت الدين والمليك والوطن طوال عقود من الزمن أفنوا فيها زهرة شبابهم فأحيلوا إلى التقاعد إما لبلوغهم سن التقاعد النظامي، وإما بناء على طلبهم نتيجة لشعورهم بالإحباط والسأم والملل من كثرة القرارات والتغييرات في طبيعة العمل، ونظرتهم إلى أن التقاعد المتأخر يُحرم الإنسان من التمتع بالحياة فلا قيمة للمال الذي يتوفر له من عمله، وهو يعاني من الشيخوخة والأمراض المزمنة.

ومن المسؤولين الذين استضافتهم القناة السعودية الأولى مؤخرًا: مساعد المحافظ للشؤون التأمينية في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية نادر الوهيبي، والذي فتح الله عليه فتحًا مبينًا في هذا اللقاء الحواري؛ خاصة عندما فكر ثم عبس وبسر وبعدها فجر تلك القنبلة المدوية، والتي أشار فيها إلى أن نسبة الـ ٩٪؜ المستقطعة من الموظف لا تكفي لدفع المعاشات مستقبلًا مما سيؤدي إلى استنزاف أموال صندوق التأمينات، والذي قد يشهر إفلاسه بسبب هؤلاء المتقاعدين الذين ليس لهم ذنب إلا أنهم طالبوا بحق من حقوقهم المشروعة، وهو التقاعد المبكر وبعد ذلك مد الله في أعمارهم حتى بلغوا من العمر عتيًا.
مشيرًا بعبقريته الملهمة إلى أنه عندما شغل آلته الحاسبة الخارقة وجد أنه يصرف لهم معاش التقاعد في متوسط ما بين سن الثامنة والأربعين وحتى سن السابعة والسبعين محملًا إياهم تلك الخسائر الفادحة التي مُني بها صندوق التأمينات الاجتماعية؛ وكأنه يقول لهم إما أن تعملوا حتى تموتوا على مكاتبكم أو أنه يجب عليكم الموت مباشرة بعد تسلمكم لقرارات تقاعدكم؛ لأنكم أصبحتم عالة على التأمينات، وما تقدمه من خدمات.

ونسي سعادته أن الكثير ممن طلبوا التقاعد المبكر ليس إلا أملًا للتمتع بحياة كريمة هادئة بعيدًا عن ضغوطات العمل وشقائه لأن الاستغراق في العمل يحول الناس لا إراديًا إلى ما يشبه الآلات التي تعمل ليل نهار، ولا تملك التحكم بنفسها حتى وإن توقف نبض محركاتها.
كما نسي أن الرواتب التي تصرف لجميع المتقاعدين ما زالت تقوم على سلم الرواتب القديمة منذ العقود الماضية دون أي زيادة أو تعديل لها؛ حيث كانت السلع والخدمات في تلك الفترة تقدم للمواطن بأسعار بخسة وبرسوم رمزية لا تُقاس بالأسعار الحالية التي تبدلت حتى إنها فاقت الخيال فهل نسي أو تناسى سعادته هذه الحقيقة المرة؟!

ومن هنا وعطفًا على ما جرى في ذلك اللقاء المثير للجدل؛ فإنني أوجه رسالة إلى كل مسؤول يظهر على أي شاشة فضائية مذكرًا إياه أن خروجه فيها ليس استعراضًا لسيرته الذاتية أو توجيه رسالة للحكومة بأنه موجود وعليها أن تحتفظ به لندرته، أو أن تحسب حسابه في أول تعديل وزاري قادم وكأن عجلة التنمية لن تدور إلا به، وإنما عليه أن يتحدث بنبض الشارع، وأن يتواضع في الحديث مع كل فئات المجتمع فالمشاهد أصبح لديه القدرة على التمييز بين الغث والسمين، كما أنه ملَّ من التصريحات الاستفزازية التي يسمعها بين الفينة والآخرى من هذا المسؤول أو ذاك.

وختامًا فإذا كان قطع بعض البدلات عمن هم على رأس أعمالهم قد تسبب بأزمات مالية حادة لهم، فإن المتقاعد منهم يعاني الأمرين، ويعيش ظروفًا صعبة حتى وإن كان قرار التقاعد هو من اتخذه فكل واحد منا له أسبابه الخاصة التي تجعله يتخذ مثل هذا القرار رغم راتبه الهزيل الذي لا يغني ولا يسمن من جوع مع العلم أنهم رضوا بما قسمه الله لهم واضعين كل آمالهم في الله -عز وجل- ومن ثم في أصحاب القرار الشرفاء بأن يلتفتوا إلى تلك النداءات المتكررة بأن يكونوا أفضل حالًا مما هم عليه الآن.

وخزة قلم:
عندما يجلس أحدُهم في بُرْجه العاجيِّ المنفصل عن الواقع، ويقوم بالتنظير على الناس مِن ارتفاع شاهق، فهو لا يُسيء لأحد بقدر إساءَته لنفسه.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button