قيادة بلادنا العزيزة، منذ عهد الباني المؤسس الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه -، مرورًا بأبنائه الملوك البررة الكرام – رحمهم الله جميعًا -، وإلى هذا العهد المشرق الزاهر، عهد حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع – حفظهما الله – سخّرت كل الخدمات والإمكانات التي تهدف إلى تأمين سبل راحة الحجاج في مختلف المواقع؛ حيث يشهد كل عام، إطلاق حزمة من المشروعات التطويرية، سواء في البنى التحتية أو تلك التي تسهم في رفع كفاءة الخدمات المقدمة لحجاج بيت الله الحرام، وكذلك أولت اهتمامًا كبيرًا بالبيئة، ومنها استخدام أفضل الوسائل للتخفيف من حرارة الطقس الذي يشهده مشعر “عرفات” في مواسم الحج، وذلك ضمن منظومة ما تقدّمه بلادنا المعطاءة من تسهيلات وخدمات لضيوف الرحمن، وضمن إطار اهتمامها بتوفير كل ما من شأنه جعل رحلة الحاج سهلة وميسرّة ومريحة ومطمئنة، تعينه على التفرغ لأداء نسكه في أمن وسكينة وخشوع.
إن الناظر للمشروع الخيري لتشجير مشعر “عرفات”، يلحظ أنه قد حوّل صعيد هذا المشعر الطاهر، من أرض صحراوية جرداء، إلى منطقة خضراء، وكوّن منها أكبر غابة طبيعية لأشجار النيم، ليستظل ضيوف الرحمن بظلالها الوارفة، وليحتموا بها من وهج الشمس، ولتقيهم ضرباتها. هذا بجانب منظومة مراوح رذاذ الماء وأعمدة الضباب المائي، التي تنتشر في الأماكن المفتوحة في مختلف أرجاء هذا المشعر، لتلطيف الجو وترطيبه وتخفيض تأثير درجة الحرارة على الحجاج، الذين يؤدون مناسك الحج، ويقفون على صعيد هذا المشعر الطاهر، خاصّة وأن معظم مواسم الحج، تقع في عزّ فصول الصيف، ليوفرا هذين المشروعين العملاقين، ظلالًا وأجواء رطبة للحجاج، تقيهم ضربات الشمس، وتخفف عنهم أشعتها اللاهبة.
ونظرًا لتميز مشروع الوقف الخيري لتشجير صعيد عرفات وتفرّده، فقد حصد جائزة مكة للتميز “في نسختها الأولى”، في فرع المحافظة على البيئة، وذلك لدوره البارز في حماية ضيوف الرحمن يوم الحج الأكبر من حرارة الجو، وكذلك نتيجة لمساهمته الفاعلة في تحويل مشعر عرفات من أرض صحراوية يشكو الحجاج حرارتها يوم الوقفة الكبرى، إلى منطقة تمتص حرارة الشمس، وليصبح مشروعًا بيئيًا ضخمًا يحمي الحجاج من ضربات الشمس، ويعمل على ترطيب الطقس الحار في الصيف، وذلك من خلال ما يقرب من نصف مليون شجرة نيم، موزعة على صعيد عرفات، وذلك بعد تعميم زراعة أشجار “النيم”، التي كانت مقتصرةً في البداية على الطرق الرئيسة، مثل: جبل الرحمة والمنطقة المحيطة بمسجد نمرة، ثم تمّ التوسع في زراعتها عامًا بعد عام، حتى غطت نسبة كبيرة من مساحة مشعر “عرفات”، إن لم تكن كلها؛ حيث أثبتت التجارب والأبحاث، أن لشجرة النيم فوائد كثيرة، منها اتساع ظلها، كما تحوي على مركبات بيولوجية نشطة تساعد في السيطرة على الآفات والمحافظة على البيئة، ولتعمل على وقاية الحجاج من الغبار وضربات الشمس، ومنذ نحو 4 عقود، وذلك من انطلاق هذا المشروع في مطلع عام 1404هـ، الأمر الذي دعا بعض الأكاديميين والمختصين والمهتمين بالشأن البيئي، للمطالبة بزيادة حجم التشجير في جميع المشاعر المقدسة: (عرفات، ومنى، ومزدلفة)، وإجراء بعض الدراسات والبحوث في هذا المجال، وبضرورة استغلال المنطقة المحيطة بمشعر “عرفات”، وتحويلها إلى منطقة خضراء، ولتصبح غابة خضراء وحديقة غناء يستفيد منها سكان أم القرى طوال العام، وحجاج بيت الله الحرام في مواسم الحج.
هذا من جانب..ومن جانب آخر، ينتشر في مشعر عرفات عدة آلاف من أعمدة تبريد المناخ التي تحوي تضم أعدادًا كبيرة من بخاخات الرذاذ، التي تقوم بأدوار مهمة في ترطيب الأجواء أثناء الوقفة في عرفة، وتسهم في تخفيض درجة الحرارة بمقدار من 5 إلى 7 درجات، وإخماد الأتربة المتطايرة من حركة الحافلات، إذ تشهد المشاعر المقدسة، ارتفاعًا في درجات الحرارة يصل إلى أكثر من 40 درجة، الأمر الذي دفع الجهات المعنية للاهتمام بهذا الجانب، لتخفيف الحرارة وتمكين الحجاج من أداء نسكهم، ويصل طول تمديدات هذه الأعمدة إلى عدة كيلومترات، وتختلف من موقع إلى آخر؛ حيث إن الفكرة من إنشائها، تعتمد على توفير سبل الراحة أثناء عمليات النفرة من مشعر عرفة إلى مزدلفة، خاصة أن هناك عددًا من الحجاج يفضلون السير مشيًا على الأقدام للوصول إلى مزدلفة، ثم منها إلى مشعر منى، بينما تقوم محطات تبريد الماء التي وضعت في مواقع مختلفة بالمشاعر المقدسة، بتغذية أعمدة الرذاذ بالماء المبرد، لرشها على الحجاج خلال تنقلهم في مشعر عرفات؛ حيث حرصت السلطات المختصة، على أن تكون طرق المشاة ومنشأة الجمرات والطرق مزودة بأنظمة رش مياه مبردة، للتعامل مع درجة الحرارة المرتفعة على حجاج بيت الله الحرام خلال تفويجهم من مشعر عرفات إلى مزدلفة؛ مرورًا بإفاضتهم إلى مشعر منى.
ضمن هذا الإطار، تعتزم الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، تأسيس إطار برنامج استدامة بيئية لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، بناء على أفضل الممارسات العالمية لجهات ومؤسسات تنظيمية مماثلة، بما يتناسب مع وضع الهيئة وتطلعاتها، ويتوافق مع أهداف الاستدامة والمرونة، وبالتالي تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، وخطة التحوّل الوطني 2020، وذلك من خلال رفع الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة، لإتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المسلمين من أداء فريضة الحج على أكمل وجه، وتهيئة المشاعر المقدسة وحماها، ورفع مستوى جذبها، عن طريق استخدامها الأمثل على مدى العام، وجعلها مركزًا حضريًا مُستدامًا، وذلك بالاستعانة ببيوت خبرة متخصصة في مجال التخطيط الإستراتيجي والاستدامة وشؤون البيئة.
كما لا يفوتني أن أُثمِّن عاليًا، توجيهات صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، في جمادى الآخرة من عام 1441هـ، بوضع خطة عمل وبرنامج زمني لا يتجاوز ثلاثة أعوام، لتنفيذ مشروع تتشارك فيه جميع الجهات الحكومية – بالتنسيق مع إمارة المنطقة -، للاستفادة من المياه المهدرة والمياه المعالجة، واستخدامها في التشجير، والتوسّع في الرقعة الخضراء بمحافظات المنطقة، على أن يبدأ التنفيذ في العام نفسه. كما أنوّه بتوجيهه – حفظه الله – في شهر ذي القعدة من عام 1438هـ، بالتحقيق فيما جرى تداوله عبر وسائل التواصل عن قطع الأشجار بإحدى الطرقات الرئيسية بالطائف، على أن يتم الرفع لسموه بالنتائج بشكل عاجل، كما حذر سموه، من حدوث أو تكرار مثل ذلك الفعل الذي يعد مخالفة صريحة لنظام المراعي والغابات، الذي يهدف للحد من التدهور البيئي، مؤكدًا أهمية منع مثل تلك المخالفة، تحت أي عذر سواء كان تهذيبًا أو تقليصًا أو غيره، كما شدّد سمو الأمير خالد الفيصل على ضرورة زيادة مساحات المسطحات الخضراء، والمحافظة على التشجير خصوصًا تلك النوعيات التي لا تستهلك كميات كبيرة من المياه لريها، وعلى ضرورة وضع برنامج واضح لتهذيب الأشجار وصيانة مواقعها، وأن لا يتم اقتلاعها أو إزالتها إلا للضرورة القصوى التي يتعذّر معها الاحتفاظ بتلك الأشجار. وأُعيد للأذهان مقطع الفيديو الذي شاهدته وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يعاتب فيه سموه الكريم المسؤولين بمكة المكرمة عن غياب التشجير عن المشاعر المقدسة، وكذلك المظاهر الجمالية؛ حيث طالب سموه بالاهتمام بالتشجير حول الخيام وبعمليات التجميل، ليرى حجاج بيت الله الحرام أثناء تأديتهم النسك، أجمل مكان مرَّ عليهم في الدنيا، وكان ذلك خلال زيارة سمو “أمير مكة” التفقدية للمشاعر المقدسة، قبيل موسم حج عام 1438هـ. الأمر الذي يؤكّد فكر سموّه الكريم النير ورؤاه الثاقبة، فهو صاحب الحكمة والحنكة والتدبير، سديد الرأي، كما تُجسِّد اهتمامه – حفظه الله – بجانب البيئة، وبالمحافظة على البيئة المستدامة ومستويات الإصحاح البيئي، بل وبكل ما يخدم هذه المنطقة – إنسانًا ومكانًا -، وبراحة حجاج البيت العتيق.
وفق الله قادتنا وولاة أمورنا وحكامنا لما يحب ويرضى، ولكل ما فيه صلاح العباد.. وخير البلاد، وزادهم الله من فضله وإنعامه، إنه سميع قريب مُجيب الدعوات.
—————————-
استاذ مساعد الهندسة البيئية والمياه كلية الهندسة والعمارة الاسلامية جامعة أم القرى