دعني أُصارحك عزيزي القارئ أنني تتبعت صفة (كبر السن) أو (التقدم في العمر) في شخصيات القصة القرآنية تتبعًا نبع عن قلق داخلي يزداد نبضه فيّ يومًا بعد يوم، فالكبر رحلة تبدأ فيها المتاعب الجسدية والنفسية والعقلية على تفاوت بين البشر.
وتجدنا في كل يوم نواجَه بسيل من مقالات ونصائح، وإرشادات ووصفات ومنتجات؛ كي تعيق أو تبطئ أو تؤخر عنا المتاعب المصاحبة للتقدم في السن جسديًا وعقليًا وروحيًا.
لا ريب.. إنها رحلة الوداع البطيء لبهجة الحياة وزهرتها وخضرتها .. لا أقولها تشاؤمُا ألبتة، ولكن هذه هي حقيقة الدنيا إذ تشيح عنك بوجهها الغادر يومًا بعد يوم، وتحاول سحب البساط الأخضر من تحت قدميك عامًا بعد عام..
الشيخوخة، نعم هي عمر الحكمة، والحصاد، والهدوء، والاستقرار، وتحقيق الأمن المادي عند الكثيرين، ولكنها مرحلة الضعف والهشاشة التي تنتاب كل شيء فيك: الذاكرة، العظام، الجلد، البصر، السمع، القدرات العقلية، القدرة على الإنجاب، الحركة، قوة التحمل والجلَد، وحتى القدرة على السهر للقراءة المطوّلة أو الكتابة المطولة، بل حتى مشاهدة فيلم لا يتم دون إغفاءة تستحي بعدها أن تتابع..، كل شيء فيك يشيخ ويهرم، ويظل يرسل إشارات متتابعة من الآلام والجهد والتعب.. لا تفيد معه عقاقير الطب أو العطارة إلا في النزر اليسير..
في القرآن الكريم، يقول عز من قائل: (الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) (البقرة: 266)، ولفتني تكرار فعل (أصاب) مرة عند (الكبر)، ومرة عند (احتراق) الجنة، وذلك في المثل الذي ضربه الله تعالى لمن “يحسن في أول عمره ثم يختم عمره بالسوء”، قال ابن عباس أنه مثَلٌ “لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله” تفسير ابن كثير.
تساءلت لماذا قال المولى: “أصابه الكبر” ولم يقل: (بلغه الكبر)، هل التقدم في العمر مصيبة؟! وما وجه اقترانه بعملية الاحتراق وعطفه عليه؟!
يا إلهي، إن الاقتران بينهما قد ورد أيضًا في حديث زكريا عليه السلام الذي ذكر (اشتعال) رأسه بالشيب: (قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا) (مريم:4).
حسنًا إنها الحقيقة المرّة: إن الكبر والتقدم في العمر هو احتراق لكل أخضر فيك، ألم تقرأ في كتاب الله في مواضع عديدة كيف شبه الله الحياة الدنيا بالزرع الأخضر الذي سرعان ما يتحول إلى الهشيم الأصفر ومن ثم الفناء..
وأقولها مكاشفة صريحة أنني في كل مرة ينتابني فيها ضعف جديد.. أحزن وأستحضر معه الفناء البطيء، والرحيل المرّ، بيد أنني بعد فترة تأمل طويلة وجدت الترياق في كتاب الله، في شخصيات قصصه (المتقدمين في العمر) حقًا كانت قصصهم الشفاء والتغيير، والتوقف عن الأحزان والخواطر التي تحمل اليأس والحزن..
– زكريا عليه السلام الذي قال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) هو نفسه القائل: (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). فوهب له الله (يحيى) على كبر فأحيا الله به الأمل والدين.
– وإبراهيم عليه السلام الذي قال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (الحجر:54)، هو ذاته الذي قال:
(ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ) (إبراهيم:39).
– و يعقوب-عليه السلام- الشيخ الكبير الذي اُتهم بضعف العقل من قبل أبنائه وذويه فقالوا له مقسمين: (تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ) (يوسف:95)، يعقبه رجوع بصره وابنه معا: (فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (يوسف:96).
– وشعيب – عليه السلام- الأب الكبير الذي ضعف حتى عن سقيا أهله فيضطر أن يبعث بابنتيه القائلتين: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23)، يُرسِل الله إليه موسى الرسول النبي الأمين نسيبًا وأجيرًا..
– وامرأة عمران التي قالت عنها الآثار أنها: “قد أمسك عنها الولد حتـى أسنّت، وكانوا أهل بـيت من الله جل ثناؤه بـمكان. فبـينا هي فـي ظلّ شجرة نظرت إلـى طائر يطعم فرخًا له، فتـحرّكت نفسها للولد، فدعت الله [السميع العليم] أن يهب لها ولدًا، فحملت بـمريـم وهلك عمران.” الطبري.
ولأنه السميع العليم تقبل دعاءها وأخلد ذكرها وتقبل نذيرتها.
– هؤلاء (الكبار) عمرًا وذكرًا كانت قصصهم منارة وشفاء لليائسين، فربك لا يعجزه شيء، فقط تمسك باليقين وادع السميع العليم أن يهبك ما تريد بصدق وإخلاص، فلن يخذلك حتمًا ولن (تكون بدعائه شقيًا)، وسيهبك الله قوة وقدرة على (الإنتاج والإنجاز) مهما كان نوعه، ومهما كانت القوانين الأرضية لا تسمح بذلك، فإن الله إذا سمح لك فلن يقف أكبر كبير أمام عطائه لك، بل ستخترق كل القوانين وتجنّد لخدمتك، وسيرد لك ما فقدت بمشيئته كما رد البصر ليعقوب، فقط أيقن يا عبد بقدرته وألح بدعوته فلن يخيبك أبدًا، أو ليس هو السميع العليم؟!!
0