خرجنا ذات ليلة أنا وصديقين فاضلين إلى إحدى نواحي مكة.. حان إذ ذاك وقت صلاة العشاء لم يكن اتجاه القبلة معلومًا – بالنسبة لنا – حاول كل هكذا بل هكذا لا بل هكذا لم نطمئن لتلك التكهنات، فكل أدلى برأيه وفقًا لمنظوره الخاص!
تطلب الأمر أن لا نكتفي بمجرد التخمين.. تبادر لأحدنا أن يستعين ببوصلة اتجاه القبلة على جهازه الجوال، بينما نقل الثاني بصره يمنةً ويسرة لعله يرى مسجدًا ليستدل من خلال مآذنه لاتجاه القبلة، أما الثالث فقد أصر على ضرورة المشاهدة البصرية كدليل قاطع وحاسم، فلم يكن أمامه إلا صعود الجبل المجاور – الذي كان يقف حائلًا دون مشاهدة برج الساعة الشاهق الذي يعانق السماء ألقًا وشموخًا- لعلنا نهتدي للاتجاه الصحيح كي لا نضل ونشقى إذ لا عذر لمن لا يبحث عن (المعلومة المغيبة) في مكان مأهول بمقومات المعرفة سواءً ما كان منها شواخص ثابتة أو شواهد بارزة أو معارف متنقلة أو متناقلة تتمثل في أشخاص أو كتب أو مصادر بحث تقنية.. كنا إذ ذاك نتحرى تلك المعلومة الصائبة، ولو كلف الأمر جهدًا مضنيًا، لم نحظَ بالسبق وإن كان الهدف ساميًا، فالبحث عن القبلة يعد أمرًا مقدمًا، إذ تتجه لها بوصلة العقل السليم والمنهج القويم؛ لترسم معالم الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتا!!
لم نكن بمنأى عن الهدف المقصود إلا أن الأمر يتطلب الحرص لنصِب مرادنا، مع العزم لبلوغ الرشد كي لا نجانب الصواب فنخسر ما كنا نؤمله من الأجر والمثوبة العظمى.. وما كان ينبغي للمسلم الاستسلام في حين أن الصبر يجاوز به الحيرة والكدر إلى آفاق أجمل وأرحب!!
▪️المهم في الأمر أن الاختلاف كان محمودًا؛ لأنه كان دافعًا للخروج من تلك الحيرة التي كادت أن تعمق التيه لولا الحرص الذي قادنا للبحث والاستقصاء بدلًا من الركون للظن أو الاستسلام لمجرد الرأي المفرغ من البراهين الدامغة التي تقنن القبول دون جدلية جوفاء أو سلطوية حمقاء (خذوها بقوة) أو هزلية بلهاء.. كان الأمر جديًا، والضرورة بعد ملحة؛ لأن نتحقق ولا نكتفي بتكهنات قد تؤول لندم ولات ساعة مندم!!
▪️ليس موقفنا هذا مشهدًا بطوليًا لا ولن يكون موقف استشهاد بقدر ماهو مثلًا يعد مبسطًا لمواقف أكثر تعقيدًا تصادفنا في حياتنا العامة نقف عندها حائرين أو متأملين!! .. قد نضع لها حلولًا عاجلة ارتجالية، وقد نتريث في معالجتها؛ لتكون الحلول ذات بعدٍ محكم لنضمن سلامة النتائج!!
نعم، نحن سِلما للطريقة العلمية في حل المشكلات بخطواتها المعروفة التي تنبثق من منهج مدروس بدءًا من الإدراك الواعي بالمشكلة ثم وضع إطارًا تُصاغ في ضوئه بمحددات معرفية وفرضيات متوخاة إلى التجريب والتحكيم ثم التقويم والتعميم، وبالتالي نجعل لنا أنماطًا نستبصر من خلالها الوقائع، كما نستظهر النتائج بكل جرأة واستقلالية؛ قرارًا ينتفي معه التخمين أو التهوين أو التهويل لنشق طريقنا نحو النجاحات التي تواكب تطلعاتنا أو تنقلنا من حالة الركود على أجنحة العزم نحو أفق أوسع وأرحب، وكأنما هي انعتاق من كينونة الانهزامية إلى الانطلاق بحرية وحيوية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 97]
▪️إذ تتحدث الآيات عن أولئك الذين استسلموا للأمر الواقع، إذ إن حالة الضعف وخور القوى لم يكن مبررًا لبقائهم محتجزين في فكرهم الضيق، كما لم يكن شافعًا بقدر ما كان إدانة بأنهم ظالمو أنفسهم إذ خنعوا لعمليات الذل والامتهان في حين أن الله خلق الإنسان حرًا ويجب أن يبقى كذلك؛ كي يعيش بسلام ووئام وقد وُهِب سبل القوة والمقاومة بل المنعة والممانعة والسطوة ليكون مقدامًا جسورًا لا مدحورًا حيران في الأرض بين هوان واحتقار مذل لذاته !!.
▪️لندلف هنا لنهاية المطاف مردفين بالقول: إن الله أودع في الإنسان بصيرة أعمق من الإبصارالمجرد، كما منحه الاستيعاب الذي يجعل من السمع قناة تغذي واحته الغناء بأنواع المعارف والخبرات التي هي مجموع متحصلات الفرد ومكتنزاته. وبجمع كل تلك الموارد يتمخض فكرًا متقدًا يضبط تصرفات الفرد لحالة من الثبات والاتزان، كما يوجه السلوك وفقًا لمعايير ذات مرجعيات دينية قيمية تسمو بالفرد نحو الكماليات الأخلاقية علمًا وتعاملًا (لا تغضب) باعتبار القدرة على التحكم بالنوازع والنوازل قوة (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)، تلك التعبئة النبوية تتجاوز بواعث النقص إلى قمم تقربنا من ذروة سنام الكمال!!
▪️هل سنستقي من معين النبوة ملامح الاعتداد بالأصالة والرصانة التي تقودنا لنتخذ قرارنا في ضوء المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك بمجرد تنقية القلب؛ ليكون مهيأً لقبول الحق وتشرب الهداية؟!
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ}.[الأعراف: 43].
▪️عندما يفرغ القلب من بواعث الشر؛ حنقًا أو حقدًا فسيتقبل الاختلاف بل يعده تغذية صحية تكسبه فائدة لم تكن حاضرةً في ذهنه أو تنبيه لما غفل عنه أو لم يخطر له على بال، وكأنما هي معلومة أهديت إليه بدافع الود، وما انبعث من القلب يصل إلى القلب.
▪️اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، فذلك توفيق من الله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ}. [الأعراف: 43].