يصب الاستسلام في دائرة انعدام الهدف، وكأن الهدف (محل الغاية) خرج عن كينونة الغاية إلى “لا شي”، وهذا ما يجعل مقولة بينجامين فرانكلين “المأساة لا تكمن في عدم الوصول إلى الهدف وإنما ألا يكون هناك هدف للإنسان من الأساس” تصور الحالة النهائية التي يصل إليها متعاطي الاستسلام، فقد انعدم الهدف تماماً كأنْ لم يخلق بمجرد اندراجه في دائرة الانكسار وبوابة الانهزام.
العنوان ” شرف الاستسلام” يعطي انطباع التضاد المطلق لدى القارئ ويصور صداقة الأعداء المستحيلة، ومصالحة المتحاربين الغير ممكنة، فهل يكون الاستسلام شرفاً فعلاٍ أم أنه تضاد ممجوج؟ ترفضه فطرة السعي الحثيث، ببراءة المحاول، وشرف المثابر؟!
دعك من معناه “الأولي” والذي تبادر بطبيعة الحال، ولن يكون الاستسلام شرفا ولا شك، ومن يسلم بهذا وقد جبلنا على الطلب؟ وسماء الجد؟ واكتملت قيمتنا بسبقنا في هذا الطريق؟ كما أن هذا الجانب قد اكتنز بالبحوث، والاقتباسات، منذ فلاسفة القدماء وحتى اليوم، فلا داعي لنشر نشارة الخشب كما يقال، بل أتحدث عن حالة خاصة للاستسلام وهي التي يكون فيها الحق الأحق والقويم الأقوم، فيكون حالة تعكس القوة لا الضعف، والجلد لا الخمول، وليس مبالغة إن قلنا أنها -أي تلك الانهزامية وذلك الاستسلام- يعد حينها معيار القوة التي حُرم منها الكثير، ودليل العزم الذي قل أن تجده.
الحرب حين تكون في حقيقتها ليست حربك أزعم أن الاستسلام مطلب، والميدان الذي كان خصمك فيه الأحمق والبطّال أحسب أن الاستسلام أكثر ما تريد، والحال التي تؤزك فيها القيم وأخلاق العظماء أن تنكص فيه وضعفت ان تستسلم فانتصرت فلا تترقب بعده قيمة ترفعك وقدرا يعليك.
من حظوظ النفس حب الانتصار حتى فيما لا نفع فيه، ولكن هناك قوة الأخلاق التي تأمر بالمغادرة أحيانا، فأنت بالخيار إما ضعف وإطاعة هواً، وأما قوة لكسر النفس والهوى بما لا ترغب، فالهزيمة هنا باتت أصعب بكثير من المحاولة والمكوث، وكأنك تجاهدها من أجل أن ترضخ وتستكين، وحينها فقط يصبح الانثناء غاية النصر وهذا ما أريده في ذلك العنوان المستفز.
بعض الانهزام أهل بأن يقوم به الشرف، ويعظم به الشأن، وتعلو به القدم، وهي درجة من الرفعة لم تخلق للكثير، ولا تحق إلا فيمن بلغ ذروة الوعي، وقمة السمو، فمزج المعرفة، والعلم، وروح العلو، وفطنة الإقدام والإحجام، وميّز ساحة حربه من حرب غيره، وهذا هو المراد.
أخيراً…. أعلم حماس الكثير في عداء ذلك المصطلح، وأعلم أيضاً رنين الرفض المطلق في ذواتكم، ولكن هبوا أن واقعاً فرض سباق خيل مع مجموعة بغال-أعزكم الله-هل سيكون انتصار ذلك الأصيل له قيمة ؟!