ولى يحيى بن أكثم قاضيًا على أهل ناحية من البصرة، فبلغ القاضي أن هارون الرشيد سيأتي إلى البصرة في جولة تفقدية، فقال للناس: إذا جاء أمير المؤمنين اذكروني عنده بخير، فوعدوه بما أراد، فلما جاء الرشيد لم يتحدث أحد بشأن القاضي، فسرّح لحيته، وكبّر عمته، وخرج، فرأى الرشيد ومعه أبو يوسف القاضي المعروف، فقال يا أمير المؤمنين: نعم القاضي قاضينا، وهو عدل فينا، وفعل كذا وكذا مما يحمد له، وجعل يُثني على نفسه، فلما رآه أبو يوسف عرفه، فضحك، فقال له الرشيد: مِمَ تضحك؟ قال يا أمير المؤمنين: الرجل الذي يُثني على القاضي هو القاضي نفسه، فضحك الرشيد حتى فحص برجله الأرض، ثم أمر بعزله من القضاء فورًا.
قاضي دوس لم يكن مجرد قاض يأتي إلى المحكمة صباحًا ثم بنهاية الدوام الرسمي ينتهي عمله وينصرف، لا، لم يكن كذلك، بل كان يعمل ويخدم كل وقته، فكان فوق عمله مربيًا وإمامًا، يصلي بالناس الصلوات، ويخطب فيهم يوم الجمعة، وكان يقوم بدور المأذون، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان يحضر مجالس الصلح ويسعى به في ما بين الناس، كان محركًا للحياة هناك، حتى فعاليات الصيف كان يقف خلف أكثرها، فتأتي فرق الكشافة، وتأتي فرق الجوالة من الجامعات، وتختار دوسا مقرًا لها، فتقام الندوات والمحاضرات، والأمسيات الشعرية، والأنشطة الرياضية، وكان يحضر مع الناس المناسبات الاجتماعية، ويعرض معهم في الميدان العرضة الشعبية.
ثم هكذا فجأة قلَّ الاهتمام بهذه المظاهر والوظائف المعنوية التي يقوم بها القاضي، وتقلصت الأدوار، وحدثت اجتماعيًا حالة تشبه إلى حد كبير ما يسمى عند الاقتصاديين بصدمة الطلب السلبي، بمعنى أن القاضي بعدما كان محورًا حيويًا ومهمًا في حياة الناس أصبح (بسبب ترتيبات إدارية وإعادة تنظيم) يُنتدب للعمل في المحكمة مرة أو مرتين في الأسبوع، واستمر الوضع هكذا فترة من الزمن حتى صدر قرار وزارة العدل بدمج محكمة دوس مع محكمة المندق، وبالتالي أغلق مقر المحكمة، ومعه أغلقت أشياء معنوية وحيوية كثيرة.
أي نعم، قد يكون لوزارة العدل استراتيجية معينة أو وجهة نظر إدارية معتبرة ومقدرة في مسألة دمج المحاكم وإلغاء بعضها، ولكن ما لا يمكن فهمه واستيعابه هو تصرف المسؤولين في المحافظة إزاء إلغاء أو دمج دوائر حكومية حيوية كانت أشبه بإكسير الحياة هناك، فهم على سبيل المثال لم يخلقوا بدائل تنسجم مع تحديثات وزارة العدل، وفي الوقت ذاته لا تؤثر على نمط الحياة العملية والنشاطات اليومية، أو بمعنى آخر غاب عنهم ما يسمى بـ(Proactive Strategies)، وهنا أتساءل: كيف يمكن أن نوفق بين هذين المتناقضين؛ من جهة ندعو للسياحة والاصطياف واجتذاب رؤوس الأموال؛ ومن جهة أخرى نساهم (ربما بدون قصد) في ازدياد هجرة أهالي المحافظة، وانتقالهم نحو المدن الكبيرة، وبالتالي خسارة العنصر البشري الذي هو لب التنمية المقصودة، ومحور البيئة الاستثمارية المنشودة!
الإشكالية الآن ليست في إلغاء محكمة دوس، وقد حدث الإلغاء، ولكن ما كان يحدث فيها قبيل الدمج أصبح اليوم على وشك الحدوث في محكمة المندق، بمعنى أنه يُخشى بعد عام أو عامين أو ثلاثة أن تُدمج هذه المحكمة مع محكمة أخرى، ولن تكون مسألة الدمج مشكلة كبرى (حتى لو دُمجت كل محاكم المملكة “مجازًا” في محكمة واحدة) شريطة أن يستمر التقاضي عن بعد! فمحكمة المندق بها الآن قاضيان، واحد في إجازة، والثاني منتدب إلى إحدى المناطق، وهذا أمر طبيعي، وقد يحدث أن ينتدب الموظف أو يمنح إجازة، ولكن من غير الطبيعي أن تبقى قضايا الناس على قائمة الانتظار فترات طويلة، بالرغم من سهولة التقاضي عن بُعد! ولعل لدى فرع الوزارة بالمنطقة ترتيبات إدارية تسد الفراغ متى وحيثما وقع.
ومع أنني دائمًا مع التنظيمات الإدارية وترشيد الإنفاق الحكومي إلا أن الحفاظ على وجود الدوائر الحكومية كالمحاكم والمستشفيات والمدارس والهيئات وتعزيز عملها في المحافظات يبعث برسائل مهمة، علاوة على أنها استحقاق لأهل المكان المراد تطويره: أول هذه الرسائل لأهالي المنطقة حيث يشعرون بالاستقرار والاطمئنان، وإلغاء فكرة الهجرة إلى المدن بحثا عن بدائل مريحة؛ وثانيها رسالة تشجيع وتحفيز لرؤوس الأموال من كبار المستثمرين سواء من أبناء المنطقة أو من خارجها للمجيء هناك، وخلق أجواء تنافسية واستثمارية في مجالات كثيرة؛ وثالثها رسالة فنية لواضعي الخطط والاستراتيجيات في فروع الوزارات بالمنطقة؛ حيث يسهل عليهم تنويع الخطط، واستدراك الأخطاء سريعًا إذا ما وقعت في نطاقها الضيق.
بقي أن نقول إنه وعلى الرغم من “اللا كمال” في الأداء البشري بشكل عام، إلا أن وزارة العدل تعيش أزهى عصورها الذهبية؛ خاصة في استخدام التقنية وتطويعها فيما يخدم مصالح الناس، ونرجو بعد نجاح تجربة التقاضي عن بُعد أن تستمر الوزارة في هذا الأمر، فلا يتضرر الناس في أطراف المنطقة وبطون المحافظات لإجازة قاض أو تعذّر حضور آخر، وختامًا نقول: لا يقيّم الأداء والإنجاز جيدًا إلا عين ناقد بصيرة، وقلم مخلص أمين، ولا يُنبئك عن المحافظة وأحوالها مثل خبير!
ابدعت يادكتور الله يحفظك والإدارات الحكوميه في المحافظه مستلمينها من ابناء المنطقه وهذاء خطاء لأن فيها محسوبيات وخدمات ووجاهات شيء لمسناه لكن عسى الله يخارج اهل دوس