المقالات

الخصخصة في بلد النفط

٢٠٣٠ هي الخطة التنموية الأكبر ذات الباع الأطول في التنفيذ بتاريخ المملكة، والتي يُنظر إليها على أنَّها أكبر خطة تحول اقتصادي وطني قيد التنفيذ على مستوى العالم. فلقد تضمنت الرؤية برامج اقتصادية واجتماعية، لتحفيز المملكة على زيادة مداخيلها من غير النفط، وتقليص اعتمادها عليه، كما تضمنت إطلاق أكبر صندوق استثمار بقيمة 1.7 تريليون دولار، وخصخصة أصول بقيمة مليار دولار ممَّا سيُشكل أكبر فرصة للقطاع الخاص المؤهل للإفادة منها.

هذه القفزة النوعية في النظام السَّعودي ترافق معها التغيير في كثيرٍ مِن الأنظمة واللوائح والإجراءات، وأدخلت في قضايا المجتمع السعودي قضايا جديدة لم تكن شائعة كما هي الآن، قد لا يفهم الكثير معناها الحقيقي، وربما قد يفسرها البعض بشكل غير صحيح نتاج الفهم الخاطئ لأهداف تطبيقها، ومن تلك القضايا قضية «الخصخصة» التي برزت بشكلٍ كبيرٍ في الفترة الأخيرة، والتي لا يزال يكتنفها الغموض لدى أغلب مواطني الدولة.

ولعل المخاوف التي اجتاحت المعلمين والمعلمات في الآونة الأخيرة خير شاهد على ذلك، فقد فُتِح لهم بابٌ في المهنية لا يُفتح ولا يُغلق دون فهم مُطلق، ولمسنا في الأقاويل والجدل حولها خبط عشواء في قضية إذا ما نجحت فإنها لا تُوزن بميزان ولا تُقدر بأثمان. فقد جاءت قضية الخصخصة مستهدفة تخصيص الوظائف التعليمية ونقلها إلى القطاع الخاص، ومما يُبرر تلك المخاوف أنَّ قضية الخصخصة تعني لدى الكثير من أفراد المجتمع بأن الدولة سترفع يدها عن القطاع المستهدف وتُسلَّمه للقطاع الخاص. وتبعًا لذلك فإنَّ الدولة سترهن خدمة الخصخصة لمزاج هذا القطاع الذي لا يحمل المجتمع انطباعًا جيدًا عنه في بعض الجوانب، ومِنْ ثَمَّ فإنَّهم سيصبحون تحت رحمته يفعل بهم ما يشاء. وعندما يكون حديث الخصخصة عن قطاع مهم كقطاع التعليم، فلربما يُثير ذلك قلقًا كبيرًا، إذا لم يشرح المسؤولون المعنيون المقصود بخصخصة التعليم شرحًا وافيًا واضحًا، يُزيل القلق والتكهنات وينهي خطأ التفسيرات.

إذ إن التعليم أحد الأسس المهمة لتطور الأمم لذلك تخصص الحكومات نسبة كبيرة من ميزانيتها للإنفاق على التعليم، ذلك أنَّ الإنفاق على التعليم له مردود كبير على الدولة، حين يؤدي الغرض منه في تنمية وتطوير الأجيال المتعاقبة ما ينعكس على المجتمع والتنمية الاقتصادية. وفِي وطننا العظيم تزايد الإنفاق على التعليم إلى أنْ بلغ الإنفاق الحكومي على التعليم في عام 2020 ما يقارب 193 مليار ريال من إجمالي إنفاق الميزانية.

هذا التزايد في الإنفاق يضع قطاع التعليم أمام تساؤلات عديدة حول مدى تحقيق غاياته وأهدافه ومردود هذه النفقات على جودة الخدمات التعليمية، ومستوى مخرجات التعليم، ومناسبتها لتطلعات سوق العمل السعودي، ومدى قدرته على مواجهة التحديات الكبيرة والتطورات العالمية في جميع المجالات، ومِن أهمها مجال تمويل التعليم وتزايد كلفته، وهذا هو حجر الزاوية الذي بُنيت عليه قضية الخصخصة؛ فإنَّه وبسبب تزايد وتيرة الإنفاق على التعليم، وما يشكله ذلك من عبءٍ ثقيلٍ عَلى ميزانيات الدول، فقد اعتبر المشرعون التنمويون خيار الخصخصة من أفضل الخيارات لحل مشكلات التعليم في معظم الدول المتقدمة والنامية على حدٍّ سواء، ولكن يُثار هنا سؤال مفاده: هل خيار خصخصة التعليم يعد دائمًا من الخيارات الناجحة لحل مشكلات تمويل التعليم؟

فِي الحقيقة نحن بحاجة لخصخصة التعليم، ليس من أجل حل مشكلات تمويل التعليم فحسب؛ فما يُعانيه التعليم العام -على سبيل المثال- من تضخم إداري كبير وبيروقراطية في اتخاذ القرارات، وتعثر في تنفيذ عددٍ مِن البرامج والمشاريع، وتدنٍ في نتائج الاختبارات الدولية التي تقيس مستوى التحصيل الدراسي للطلاب والطالبات في بعض المواد يعتبر سببًا جوهريًّا آخر يستحث أصحاب القرار في إطلاق تجربة الخصخصة لعلها تؤدي دورًا جوهريًا في حل هذه المشكلات ومعالجتها بعقلية القطاع الخاص الذي تبحث دائمًا عن رفع كفاءة الأداء، والحد من البيروقراطية، والسرعة في اتخاذ القرارات وتنفيذها.
لذا ينبغي التعامل مع هذه القضية بحذر شديد ومراعاة تأهيل القطاع الخاص وتشجيع الكيانات الكبيرة على الاستثمار في التعليم؛ بهدف زيادة جودة الخدمات التعليمية، وحماية حقوق المعلمين والمعلمات، وضمان أمنهم الوظيفي، وعدم تعرضهم للفصل التعسفي، والإقالة دون مبررات مهنية وأخلاقية مقنعة، والحصول على مرتبات عادلة توازي ما كانوا يتحصلون عليه من الدولة قبل التخصيص، وتحقيق أعلى درجة من الشفافية والعدالة لمنع المحاباة في إسناد ونقل ملكية قطاع التعليم من الحكومة إلى القطاع الخاص، تجنبًا لاحتكارها من قبل شركات أو مستثمرين معينين.
كما ينبغي أيضًا التعامل مع هذه القضية بشيءٍ مِن الوضوح، إذ إنَّ أي قرارٍ مِهم يمسُّ الخدمات الحيوية للمجتمع، يستوجب تفسيرًا من الجهة المسؤولة عن تنفيذه، ليكون المواطن داعمًا وشريكًا إيجابيًا فيها، وحتى تؤتي الخصخصة أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ، ولا تقلب لنا ظَهْرَ المِجَنّ إذا ما أسأنا استثمارها أو أخطأنا في تنفيذها.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button