بيت الشعر الذي نعنيه في هذا المقال كغيره كثير من الأبيات والأمثال والحكم في تراثنا العربي الأصيل التي ربما يختلفُ الناس حول المناسبة الحقيقية التي قيلت فيها، وتتعدد الروايات في ذلك الشأن، ولكننا في الغالب نتفق حول الأحداث والمناسبات المشابهة التي نستحضر عندها ترديد تلك الأمثال والحكم وأبيات الشعر، ومما ورد في مناسبة بيت الشعر الذي نعنيه أن رجلًا كان دائم السخط على زوجته، وكان لا يطيقها، لكنها ظروف الحياة والقدر الذي حكم في ملازمته لها.
والطريف في الأمر أن كان لذلك الرجل حمار يعزه ويغليه، ففقده ذات يوم، وبدأ في البحث عنه، وهو في حالة خوف وقلق من أن يكون أصاب الحمار مكروهًا، لكن ما لبث أن علم من بعض جيرانه أن زوجته قد امتطت ظهر الحمار، وولى بها مسرعًا خارج الديار، فابتهجت سريرة الرجل، وأنشد قائلاً:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو ** فلا رجعت ولا رجع الحمار
وهكذا أصبح الناس يرددون هذا البيت كلما تخلصوا من شخص غير مرغوب فيه حتى ولو ترتب على ذلك أن يخسروا شيئًا من أموالهم أو يضحوا بشيء من عزيز أملاكهم. وما أكثر الناس في عصرنا الحالي الذين ننتظر وبفارغ الصبر أن يمتطوا صهوة حمار أم عمرو، بل نتمنى أن نحمل البعض منهم على صهوة جواد عربي أصيل في سبيل الخلاص من أذيته حتى وإن لم يكن كفؤًا لركوب الخيل، بل ربما نتمنى لو نحجز له على متن مركبة فضائية لتذهب به إلى أبعد الكواكب؛ شريطةً أن تكون رحلته ذهابًا بلا عودة حتى نتخلص منه ونخلص الناس من أذيته. فكم صديق لم يأتك من صداقته إلا الأذى، وكم من جار لم تسلم من بوائقه وكم زميل لم تجنِ من زمالته إلا بذاءة لسانه وكثرة كلامه، وكم من موظف عطل مصالح الناس وأشغلهم عن ممارسة شئون حياتهم بتأخير معاملاتهم بدون سبب منطقي إلا استهتارًا منه ولا مبالاة ولا حتى خوف من نظام يردعه. وكم من مدير قَرّبَ حوله أراذل الناس على حساب المنتجين والمخلصين، وعادى الكبير والصغير في مؤسسته ظنًا من أنه سيخلد على كرسيه، ولم يفق من غفلته إلا حينما وجد نفسه مرميًا به خارج نطاق التغطية، فكانت فرحة مرؤوسيه كبيره بامتطائه صهوة حمار أم عمرو.
ومما سيؤلم ذلك المدير المتغطرس ويزيده حسرة أن أولئك الموظفين الذين طالما ظلمهم؛ هم من بقي في المؤسسة، وهو الذي ولى بلا رجعة. أليس من الحكمة أن يدرك الإنسان أنه سيكون أقوى حينما يكون عودًا في حزمة مع من حوله وأن الأنانية والنرجسية لا تصنع مجدًا، والتاريخ خير شاهد يروي له كيف لم يدم كرسي الإدارة لمن كان قبله وإلا لما وصل إليه، والمؤكد أنه سيرحل في يومًا ما تاركًا ذلك الكرسي لغيره؛ فالأهم أن ينظر ماذا يجب عليه أن يعمل خلال فترة وجوده في ذلك المنصب وماذا سيخلف وراءه، وماذا سيقول الناس عنه بعد رحيله؟ بل يجب أن يسأل نفسه وهو مازال على الكرسي: ماذا أريد أن يقول الناس عني بعد رحيلي وبماذا أتمنى أن يذكروني؟
إن من الفطنة أن يتذكر كل منا بأنه سيرحل حتمًا في يوم ما عن المكان الذي هو فيه حاليًا، سواء كان ذلك المكان وظيفة أو منزل أو مؤسسة، بل وكما تقضي سنة الكون بأنك سترحل حتمًا عن هذه الدنيا بأسرها في يوم ما. فالأهم أن تترك بصمةً جميلةً في المكان الذي ترحل عنه، نعم من الحكمة أن تترك خلفك مساحة كافية للناس؛ كي تُذكرك بالخير، وتدعو لك بظهر الغيب؛ كلما مرت حادثة يستحضرون معها مواقفك النبيلة بدلًا من أن يتذكروا حمار أم عمرو كلما جاءت سيرتك.
الختام:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أكمل الناس إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
————
• عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.