د. عبدالله العساف

حرب الصور والمصطلحات

قال صاحبي: هل تحدث الحرب بين الدول بغير الأدوات العسكرية، والدبلوماسية، والاقتصادية، هل تختلف في شدتها، وتأثيراتها ونتائجها عن الحروب التقليدية، ما أبرز أدواتها، ما أهم استراتيجياتها، ما وسائل الوقاية منها، وكيفية مقاومتها؟.
تعوَّدنا على سماع سخرية بعض وسائل الإعلام الغربية المتكررة من مقولة وزير دعاية هتلر، الدكتور ستيف جوبلز “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”، وكأني بجوبلز لو كان حيًا، ويستمع لهذه الإسقاطات لأستحضر المثل العربي “رمتني بدائها وانسلت” ثم قال متهكمًا: مهما كذبنا في إعلامنا فقد كان محدود التأثير، محدود الوسائل -الإذاعة- لم يتحوَّل كذبنا إلى عقيدة إعلامية، لها مصانعها ومختصوها، وتأثيراتها الفورية المتحكمة بمشاعر وسلوك مستقبليها بشكل غير مسبوق، كنت أنا ومعاوني نصنع الأخبار الساذجة قياسًا بصناعتكم للأخبار القادرة على تعميم الأوهام وتحويلها لحقائق، وتحكمكم في تدفقها وتوجيهها.
ما ذكره السيد جوبلز يُشير إلى أن العالم اليوم يعيش حربًا إعلامية ناعمة، قائمة على تشكيل الصور، وبناء المصطلحات، ثم إشهارها، عن الأنا بطريقة إيجابية جاذبة مشوقة، وعن الآخر بطريقة سلبية منفرة، ومحرضة ومؤيدة لما سينفذ ضده، من انتهاكات لحرماته، وسلب لمقدراته، واحتلالًا لأراضيه، تحت تصفيق وإعجاب الرأي العام المخدوع بزيف الصورة، ورنين الكلمات؛ نتيجة لاستلاب الإرادة، وفقدان المناعة ضد هذه الصور المصنوعة بمهنية عالية، والمصطلحات المنتخبة، والمستخدمة بوعي ومكر، والتي غدت أسلحة ذكية في تدمير الخصوم.
يُقابل عبارة جوبلز الشهيرة، عبارة مماثلة لوزير الدفاع الأمريكي رامسفلد، لم تأخذ حقها في الانتشار(انتهت الحرب العسكرية وبدأت حرب الأفكار)، والتي تعني ببساطة الهيمنة على الثقافات والشعوب، ولم تكن لتحدث أثرها لو لم تكن هناك وسائل إعلام تنقلها للجماهير، ولغة إعلامية روجت لهذه الأيديولوجيات التي شغلت عقل العالم وفكره ولا تزال؛ فالحرب ضد الإرهاب التي قادتها الولايات المتحدة غرست مصطلحات معينة لدى الشعب الأمريكي، مثل: (لماذا يكرهوننا) دون أن تُشير هذه المفاهيم إلى أن العالم يكره سياسة واشنطن وليس القيم الأمريكية.
حرب الصور والمصطلحات حلَّت محل الطائرات، والقنابل والصواريخ الذكية، واستبدل العسكريون بمثقفين، وإعلاميين، وأكاديميين، وباحثين، مدربين على مخاطبة المجتمعات المستهدفة، وقيادتها، بطريقة ماكرة؛ كما تُقاد الأسماك التائهة في ظلمات البحار، بإرسال إشارة ضوئية تلهث خلفها تلك الأسماك المسكينة عديمة التجربة، ظنًا منها، أنها وجدت ضالتها، فإذا بها في شباك الصياد!!

وحتى تتحقق النتائج المرجوة، اختفى الزي العسكري، وظهرت البدل الأنيقة والفاخرة، ومن نوافذ الإعلام المتعددة ظهرت الوجوه المبتسمة، مدعية امتلاك المعرفة، متسلحة بألقاب الخبراء والاستراتيجيين، ممهدة الطريق لتقبل فكرة التغير التي سوف تُعيد تفتيت الجغرافيا من المغرب إلى أفغانستان، وإعادة تشكيلها برسم خرائط جديدة، وفرض هويات مزيفة، بضرب الهويات الوطنية، واستنقاصها، ودفع الشعوب للبحث عن بدائل لا وجود لها؛ تحت عناوين براقة مخادعة تخفي مالا تظهر.
فصناعة الصورة وابتداع المصطلحات، أصبحت وسيلة فعّالة تملكها مراكز صناعة القرار، لكسب التأييد الشعبي بكي ذاكراته بالخرافات، المصنوعة وتسويقها له عبر الضخ الإعلامي المكثف ليؤمن بها ويتبناها، ويساند حكومته فيما تتخذه من إجراءات قمعية ضد دول وكيانات وأفراد:
• نحن طيبون وهم أشرار.
• أعداؤنا يخططون للقيام بمؤامرة ضدنا.
• الآخرون أعداء لقيمنا – الحرية- حقوق الإنسان- الديموقراطية…إلخ.
• نحن المدافعون عن العالم الحر، والمسؤولون عن تعميم الحرية وحقوق الإنسان ونشر
الديموقراطية، ومحاربة الديكتاتورية في العالم المتخلف.
حرب الصور والمصطلحات، أو الحرب الناعمة، هي النسخة المطورة، والأكثر تدميرًا من الحرب الباردة التي كانت تشنها وسائل الإعلام الغربية على الاتحاد السوفيتي آنذاك، وساهمت في سقوط أنظمة، وصعود أخرى، وتفكيك منظومة الدول الشيوعية، من خلال صناعة الأخبار وتأطيرها في صورة وحشية تُهدد أمن واستقرار العالم، فالصحف الغربية صنعت صورة مخيفة للبلاشفة من خلال زعمها أنهم يستخدمون مقصلة تعمل بالكهرباء لقطع رؤوس خمسمائة ضحية في الساعة!!
هذه الصورة النمطية التي برع الإعلام الغربي في تفصيلها على مقاس الخصوم، تطورت وأصبحت تستخدم وسائل ومضامين مختلفة من السينما إلى السوشال ميديا، مرورًا بصناعة النكت السياسية، والتضليل الإعلامي، والرسوم الكاريكاتورية، التي ساهمت في صناعة العدو على الطريقة التي يريدها القائم بالاتصال، لتحقق أهداف السلطة السياسية، في التوسع والهيمنة على الشعوب، وتُبرر الحرب ضدها، فالفوضى الخلّاقة التي سوقتها الميديا الناعمة لتدمير العالم العربي تحمل معانٍ متضادة، فكيف تصبح الفوضى خلّاقة؟! والأهم كيف آمنت بها بعض العقول العربية، وهدمت بلدانها بيديها لا بيد أعدائها؟!

قلت لصاحبي:
قد يحتمي البعض من الحرب في الملاجئ.. لكن قد لا يستطيع الاختفاء من تأثير حرب الصور والمصطلحات، التي باتت سلطة جديدة مشكلة للقناعات، وصانعة للقرارات، والتحولات الاستراتيجية، إلا بوجود إعلام وطني يؤمن بأن العمل الإعلامي رسالة، وليس وظيفة

Related Articles

One Comment

  1. لاتحسبِ الارض عن انجابها عقرت
    من كل صخر سيولد للفدا جبلُ

    فالغصن يُنبت غصنًا حين نقطعهُ
    والليل ينجب صبحًا حين يكتملُ

    ستُمطر الارض يومًا رغم شحتها
    ومن بطون المآسي يولد الأمل

    تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button