حينما يتحرّى المسؤول العدل، فهو يسعى للالتزام بأحد أهم القيم العظيمة في عمله، وقد لا يتمكن من العدل مع تيقنه من الالتزام به؛ لأنه حين تحري العدل -دون وعي- وقع في توهم العدل فمارس الظلم بدلًا عن العدل.
ومن له علاقة بعلم الإدارة وتطبيقاته، يدرك أن ممارسة العدل قد يكون ظلمًا في حالات كثيرة، أبسطها الخلط بين العدل والمساواة، لكن حالة توهم العدل أكثر ظلمًا من تحري الظلم، وكما يُقال على سبيل المثال: من يولى إجراء مقابلة شخصية لتوظيف أحد معارفه مثلًا. يتحرى عدم محاباته من خلال العديد من الأسئلة والتقييمات، لكنه قد لا يُمارس ذلك مع من لا يعرفه، مما يوقع الظلم في عدم تعرض المتنافسين لذات مستوى التقييم، فيقع الظلم على من يعرفه واهمًا العدل، وكذلك المسؤول قد يُحاسب الموظف من معارفه على تأخره لدقائق، بحجة تطبيق النظام وعدم المحاباة، بينما يتغاضى عن تأخر غيره لساعات، فيظلم صديقه متوهمًا العدل، وفي بعض الوظائف يجد ابن الشمال فرصة عمل في الجنوب، وفي المقابل يجد ابن الجنوب فرصته في الشمال بذات الوظيفة وذات الشروط، ومن ذلك أن أحد الأصدقاء تقدم إلى جامعة ناشئة في منطقته فرفض، وسألت آنذاك عميد الكلية؛ فأسر لي أنه ضعيف علميًا؛ ليقبل في جامعة تصنف ضمن أفضل (500) جامعة في العالم، وحدث ذلك لآخرين، مع أن المسؤول يرى أنه قد حرص على عدم المحاباة متوهمًا في ذلك العدل، فمن قبل عنده كان مرفوضًا في منطقته التي جاء منها، وقد يكون في رأيه ما يجد له تبريرًا، ومن ذلك أن أحد الأصدقاء كُلف بعمل في تخصصه، لكن الساعات كانت كثيرةً، وحينما استفسر من رئيس القسم وهو أحد أقاربه، قال له: أليس هذا تخصصك، فرد: نعم؛ فقال رئيس القسم: نحن كلفناك بتخصصك، فرد المكلف: لكن زميلي في ذات التخصص، وكلف بتخصص آخر وربع نصابي، وهناك من هو ليس لديه ساعات من ذات التخصص، الذي كلف به زميلي، فكان رد المسؤول “هل تريدني أن أحابيك؟ ليخرج الموظف من مكتبه، وهو يدرك أن المسؤول قد توّهم العدل”.
تلك الأمثلة وغيرها قد تمرُّ بنا، لكن توهم العدل أسوأ كثيرًا، حينما ننظر للوطن ومنجزاته بعين ناقدة، تتوقف عند السلبيات، لكنها لا تراها في دول أخرى، بل يبالغ في إيجابيات تلك الدول ويتغاضى، ويقلل من شأن منجزاتنا الوطنية، ولو رجعنا خطوة إلى الوراء؛ لننظر في مواقفنا العادلة -حسب ما نتوهم- لا نكشف لنا ميلها عندما نخضعها لتفكير منطقي بسيط، فالتجربة الديموقراطية اللبنانية تتهاوى أمام منجزات وطننا، وشعارات الحكومة التركية تضمحل أمام مواقف المملكة، التي تتجاوز الخطب الرنانة إلى المواقف والأفعال، والمجالس النيابية البرلمانية في دول مجاورة ترفض عند مشاهدة تنميتها المتوقفة منذ عشرات السنين، وتقابلها القفزات التنموية السعودية التي تجاوزت ما حققته دول عبر مئات الأعوام، لنتعامل بوعي مع وطننا بعيدًا عن توّهم العدل الذي وجهه الحقيقي ظلم الوطن.
ولأن إعلامنا له دوره الحيوي في التعامل مع المنجزات الوطنية؛ إلا أن حسن النية في الطرح غير المهني، قد يجد فيه أعداء الوطن فرصة سانحة لتسويق فكرة مشوهة والتدليل عليها ببعض الطروحات الإعلامية غير المهنية، التي قد تبنى على توهم العدل في الطرح، إلا أنها في بعض الأحوال مجتزأة أو بنية المساهمة بالإصلاح، مع افتقادها للمعلومة الدقيقة، أو اعتمادها على معلومة قديمة أو ناقصة، فيما تتناول بعض وسائل إعلامنا ذات الفكرة في بلد آخر، بطرح إيجابي كنظام الرعاية الاجتماعية الجميل في بعض الدول الغربية، ثم الحديث عن بعض حالات الفقر في السعودية، دون الحديث عن الشؤون الاجتماعية لدينا، وما تقوم به من أعمال كبيرة، في مقابل غضّ الطرف عن المشردين في بعض العواصم الغربية، وسكان المقابر في بعض الدول الآسيوية.
اصبت الحقيقة في هذا المقال الذي يلامس ويعالج كثير من الخطاء الادارية التي توهمت العدل والمساوة
شكراً
د. مفرح بن غاطي على هذا الطرح العقلاني الجميل
عبدالرحمن بن بشير الخياري